عندما أخذ الإعلام الرقمي بالظهور، بدا أن هناك منعطفاً كبيراً ومحكاً حقيقياً سيمر منهما الإعلام التقليدي، بعد أن فتحت التكنولوجيا الحديثة واتساع شبكة الإنترنت فرصاً مذهلة وإمكانيات زاخرة في هذا الخصوص، وبخاصة على مستوى التواصل والتأثير وتشكيل الرأي العام بصور غير مسبوقة أصبحت تتجاوز الحدود وتتيح التفاعل مع الجمهور من خلال سبل تواصلية تجاوزت الطرق التقليدية إلى آليات مستجدة مرتبطة بالصورة والصوت والفيديو والتفاعل.. من خلال قوالب وتطبيقات لا تخلو من جمالية.
لا يمكن إنكار الفرص الكبرى التي أتاحها الإعلام الرقمي من حيث قوة التأثير على المستويين الأفقي والعمودي، أي في علاقة ذلك بالمساهمة في التنشئة الاجتماعية وتوعية المواطن وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان، أو في ارتباط ذلك بفضح الخروق، ونقد السياسات والتشريعات، والمرافعة بشأن عدد من القضايا التي تهم المواطن أمام صانعي القرار.
وفي مقابل ذلك، برزت الكثير من التحديات والإشكالات التي أثّرت بشكل واضح في رسالة الإعلام وعلى أخلاقيات المهنة، في ارتباط ذلك باقتحام عدد من الأشخاص الذين لا تتوافر فيهم شروط الكفاءة والتجربة الخاصين بممارسة هذه المهنة، أو بارتكاب عدد من الخروق باسم حرية التعبير، من قبيل الاعتداء على الملكية الفكرية، والخلط بين الخبر والإشاعة، بل واقتراف السب والقذف أحياناً، خصوصاً أن النشر الإلكتروني وتطور شبكات الاتصال الاجتماعي أتاحت النشر بأسماء مستعارة، ما رفع سقف الجرأة في ارتكاب جرائم رقمية وممارسات لا أخلاقية تمس بحقوق الإنسان وبكرامة الأفراد، وتكريس التطرف والعنف والمس بالخصوصيات في كثير من الأحيان.. وهي الإشكالات التي حاولت التشريعات الوطنية صدّها واحتواءها من خلال إصدار نصوص قانونية حاولت في مجملها الموازنة بين حرية التعبير التي تتيحها هذه التحولات الرقمية انسجاماً مع الضمانات التي تدعمها الدساتير الوطنية، والمواثيق الدولية من جهة، والحيلولة دون اقتراف جرائم رقمية من جهة أخرى.
وفي هذا السياق، يعتبر الكتاب الذي أصدره أخيراً د.مصطفى غلمان والموسوم: «في سوسيولوجيا الإعلام والرقمنة.. قراءات في المحتوى والوسيط» والذي صدر في عام 2025 عن دار أكورا للنشر والتوزيع بالمغرب، إضافةً نوعيةً ومفيداً للباحثين والفاعلين في حقل الإعلام، يطرح فيه الكاتب أسئلة عميقة، تتمحور في مجملها حول المفارقات الكبيرة التي تطبع الوسائط الرقمية للإعلام في عالم مفتوح ومتغير من جهة أولى، والمحتويات التي أصبحت تطرح إشكالات قانونية أخلاقية جمّة.
يتطرق الكتاب إلى مجموعة من القضايا والإشكالات التي تجسد هذه المفارقة، فرغم تأكيده على الأهمية الكبيرة التي يحظى بها الإعلام الجديد في تشكيل الرأي العام، فإنه يرى أن وسائط الاتصال الجديد تنبئ بتداعيات مخيفة، وخصوصاً تلك التي يطرحها نشاط المؤثرين الذي أصبح يحظى باهتمام كبريات الشركات والعلامات التجارية العالمية طمعا في امتداداته الجماهيرية، ذلك أن الإعلام الرقمي وشبكات التواصل الاجتماعي أضحت تعجّ بمواقف ومحتويات لا تخلو من خروق قانونية وانحرافات أخلاقية تكرّس التفاهة والجرائم الرقمية، بفعل نقص الكفاء والخبرة، والجهل بالقانون وبأخلاقيات مهنة الصحافة.
يلعب التكوين في مجال الإعلام أهمية كمدخل أساسي لتضييق هذه المفارقة، وكسب رهانات رسالة إعلامية راقية ومحتويات منفتحة على قضايا المجتمع الحقيقية، مع تزايد مخاطر التأثيرات الواقعية والمحتملة في أوساط الأطفال والقاصرين الذين تجذبهم الوسائط الرقمية بإغراءاتها التقنية بغض النظر عن طبيعة المحتويات التي تقدمها.
إن تجسير الفجوة في هذا السياق بالصورة التي توازن بين حرية التعبير وإشكالات الانفلات، هي مسؤولية جماعية، وهي تصطدم بمجموعة من الصعوبات التي يمكن إجمالها في مدى قدرة التشريعات الوطنية على مواكبة السرعة الكبيرة التي تتطور بها الرقمنة وما يحيط بها من تكنولوجيا حديثة وذكاء اصطناعي، وتغيرات اجتماعية وثقافية موازية لذلك.
ويسائل الكاتب واقع اللغة العربية في الإعلام، بعدما أتاحت التكنولوجية المتقدمة فرص نشر المحتويات العربية في عالم بلا حدود، مشيراً إلى أهمية هذه اللغة كتعبير عن الهوية وعن التاريخ، ليخلص إلى أن هذا الحضور تعتريه الكثير من الإشكالات بفعل الانتشار الكبير لاستخدام لهجات محلية بعيدة كل البعد عن جمالية اللغة العربية وعمقها.
إضافة إلى توظيف الذكاء الاصطناعي في التحقق وجمع المعلومات وتصنيفها وإعداد المحتويات في قوالب جذابة، وبمخاطره وتحدياته المتصلين بتكريس الإشاعات وتزييف الحقائق، وإمكانية نسج قصص وتقارير وروايات بواسطة هذا الذكاء.. ليخلص إلى أن التشبث بأخلاقيات مهنة الصحافة هو الإطار الكفيل بحفظ مصداقية رسالة الإعلام أمام كل هذه التطورات والمستجدات.
أضحى الإعلام بمثابة قوة فعلية ناعمة لا تخلو أهميتها في كسب الكثير من المعارك، وقد تطرق الكاتب إلى الفجوات الرقمية التي تسبب اختلالات مجالية عالمية في مجالات الرقمنة والتكنولوجيا الحديثة، وتحول دون تحقيق أهداف التنمية المستدامة ومجتمع المعرفة، أو توظيفها بشكل معقلن في مجالات الإعلام والتعليم والبحث العلمي.
وجدير بالذكر أن القضية الفلسطينية استأثرت باهتمام كبير ضمن محاور المؤلف، خصوصاً أنها كشفت ومازالت زيف حرية التعبير واستقلالية الإعلام الغربي الذي تجاهل حراك الجامعات، ومعاناة الشعب الفلسطيني أمام الجرائم الوحشية التي ترتكبها إسرائيل داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة.
د.إدريس لكريني
باحث أكاديمي