Follow ICT
شعار الموقع الاساسى
جايزة 160
جايزة 160

فايز عبد الله ماضي يكتب: استقلالية تكنولوجيا المعلومات لتحقيق الأمن القومي العربي

لطالما كانت ولا تزال الأمم والشعوب حول العالم في عصرنا الحاضر، وعلى مرّ التاريخ، ساعية إلى البحث عن استقلالها التام؛ لتبرهن من خلاله قدرتها على الاكتفاء بنفسها دون غيرها من باقي دول العالم بشكل عام، ومنافساتها بشكل خاص، في شتى المجالات والعلوم والصناعات.

وبالطبع فإن عصرنا الحالي هو عصر كباقي العصور، فيه من المجالات المتطورة والمتقدمة ما فيه، لكنه يمتاز عن غيره بمجالات عديدة لم تكن موجودة من قبل، أبرزها بالتّأكيد كلّ ما يبحث في تطوير تكنولوجيا المعلومات وعلم الحاسوب وتبادل البيانات، وهو مجال ضخم بدأ يظهر بشكل فعلي وواضح في وسط ونهاية الستينيّات من القرن الماضي.

إن دور تكنولوجيا المعلومات فيما نحققه من تقدم على المستويات كافة واضح وملموس للجميع، ولا داعي للتعمق فيه؛ فهو موضوع متشعب ومتجدد، ولكن لعل أهم آثاره على واقعنا الحالي وفيما يخص سياق هذا المقال يتمثل في الغاية والهدف من تحقيق الأمن القومي للأمم، وذلك عبر تذليل وتطبيق علوم الحاسوب في مختلف المهام؛ أبرزها طبعا تبادل المعلومات القادر على تهميش العامل الزمني، والذي يشمل ضمنيًا المجالات الحربية والعسكرية التي تسعى الأمم إلى تحقيق أمن معلوماتي وتكنولوجي فعال فيها، كي تتمكّن من الوصول إلى أهدافها ضمن معايير الحروب المعاصرة بصرف النّظر عن كونها حروب عدائية أو حق مشروع في الدفاع عن النفس، لكنه في كلتا الحالتين يصب في اتجاه تأمين وحماية سيادة ومصالح كل دولة.

إنّ تجربة الهجوم السيبراني الذي تعرضت فيه مولدات الطاقة الأوكرانية عام 2015، واتهمت فيه روسيا بتعمد ضرب مدينة إيفانو فرانكيفسك، والذي يعد حسب خبراء أول انقطاع معروف للتيار الكهربائي بسبب هجوم إلكتروني، هي تجربة وحادثة حقيقية أدت لقطع التيار عن حوالي ربع مليون مواطن حسب تقرير نشرته إذاعة BBC في السادس والعشرين من شهرفبراير عام 2016، وهو حدث مهم دعا الجميع للتفكير في أبعاده، وفي عواقب إهمال التنمية والتطوير في الجانب المعلوماتي والتكنولوجي والرقمي.

وما كاد ينتهي عام 2016م حتى تعرضت أوكرانيا مرة أخرى لهجوم سبراني أشد فتكًا أدى لقطع التيار الكهربائي عن خُمس سكان العاصمة كييف، وذلك وفقا لتقرير آخر نشرته صحيفة وايرد الإلكترونية في الثاني عشر من شهر سبتمبر عام 2019، وهي صحيفة أمريكية مختصة في مجال تأثير المستجدات التقنية على جوانب الحياة كافة.

كما أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية في ذات العام تعرضها لهجوم سيبراني جديد اتهم فيه الكرملين بالوقوف وراءه، أدى هذا الهجوم إلى تسريب آلاف الوثائق والمراسلات من خوادم اللجنة الوطنية الديموقراطية الأمريكية، ونتج عنه فيما بعد أزمة انتخابية محلية امتدت لتصبح معضلة حقيقية على المستوى الدولي، وذلك وفقا لتقرير نشرته صحيفة CNN عبر موقعها الإلكتروني في 26 من ديسمبر عام 2016.

كل هذه الحوادث ليست إلا قليل من كثير من الوقائع التي برز فيها دور تكنولوجيا المعلومات كعامل أساسي في الحروب وصناعة القرار السياسي، فإذا كان الجيش الأوكراني والمصنف في المرتبة الخامسة عشرة ضمن أقوى جيوش العالم قد تعرض لهجمات من هذا النوع، والتي نجحت بدورها في ضرب بنيته التحتية، فنحن أجدر بأخذ المزيد من الحيطة والحذر في شتى حقول تكنولوجيا المعلومات، خصوصا فيما يتعلق بأساليب الدفاع والهجوم؛ لحماية مصالحنا وأمننا المشترك.

وإن كانت الولايات المتحدة الدولة الأولى عالميا من حيث القوة العسكرية والاقتصادية البالغة 25.035 تريليون دولار لعام 2023، علاوة على أنّها صاحبة أكبر نفوذ سياسي على مستوى العالم، قد تعرضت لهجوم سيبراني أثر بشكل جليّ على صناعة القرار فيها، خصوصا في جوانب حساسة كالانتخابات الرئاسية؛ فالعرب أولى بدراسة وتطوير هذه الجوانب لاسيما عند الأخذ بعين الاعتبار ما يتعرض له وطننا العربي بشكل عام ، والشرق الأوسط بشكل خاص، من ضغوطات تندرج جميعها تحت أهداف تحقيق السيادة والاستقلالية ومقاومة الاستعمار.

والسؤال الملح الآن هو: كيف يمكننا تحقيق هذه الاستقلالية والوصول إلى مستوى كاف من القدرة والقوة يمكننا من حماية مصالحنا السياسية والإعلامية والعسكرية، بل وحتى الإستراتيجية لأمتنا العربية ككل ؟

إن عملية الاتّصال القائمة على أنظمة تكنولوجيا المعلومات تتكون بشكل عام من قسمين رئيسين اثنين، وهما: البنية التحتية بما تقتضيه من بنى أساسية، كأبراج الاتّصال والأقمار الاصطناعيّة والخوادم والشبكات وتنظيم وإدارة البيانات وحفظها وغيرها، وقسم آخر يعنى بالجانب التقنيّ، كالبرامج والتطبيقات والخدمات في كافة المجالات والحقول، ابتداء من أبسط العمليات الحسابية والخوارزميات، وانتهاء بأكفأ برامج الذكاء الاصطناعيّ وعلم البيانات.

ويعتمد الوصول إلى الاستقلاليّة في تكنولوجيا المعلومات على قدرة الدّولة على تحقيق تقدم حقيقيّ وملموس في كلا الجانبين أو أحدهما، وخصوصا فيما يتعلق بالبنية التحتيّة، بحيث تكون الدولة قادرة على إدارة عملية التواصل ونقل البيانات بحرية تامة عبر شبكة مبنيّة ومصممة خصيصًا لتلائم احتياجات هذه الدولة.

وقد حملت حرب غزة الأخيرة هذا العام دروسا وعبر ورسائل عديدة لابدّ أن تؤخذ بعين الاعتبار للاستفادة والاتّعاظ منها، خصوصا تلك التي تتعلّق بالاعتماد على الذات، فلو أتيح لقطاع غزة المحاصَر بشكل دائم أن يمتلك من البنية التحتيّة والخدمات وشركات الاتّصال والإنترنت ما يمكّنه من الاستغناء عن الاحتلال، لما استطاع الأخير قطع هذه الشّبكات بشكل تام في كلّ مرّة يقرّر فيها اجتياح القطاع.

ولو كان الوطن العربي ككل يمتلك من منصات التواصل الاجتماعي ومحركات البحث ما يمكنه من إدارتها وتنظيمها وتطويرها، لما تمكّنت شركات أمريكيّة كشركة “ميتا” عبر مختلف تطبيقاتها ومنصاتها مثل فيسبوك وغيره، إضافة إلى الكثير من الشركات الإعلامية والتكنولوجية من حجب المحتوى العربي بشكل عام، وذاك الداعم للقضية الفلسطينية بشكل خاص، عن العالم أجمع بكبسة زر، ولما استطاع الاحتلال تصدير صورة مزوّرة وأخبار زائفة عن الحرب في القطاع، لاسيّما ما وقع في السابع من نوفمبر لذات العام، حيث استطاع في فترة وجيزة تجييش الرأي العام الغربي والعالمي لصالحه، وشيطنة الآخرين من حوله.

وقد كان من الممكن أيضا عبر تطوير نظامنا التكنولوجي الخاص تجنيب الدول العربية وشعوبها حاجة الانتظار من شركة سبيس إكس الأمريكيّة الممثلة بمالكها إيلون ماسك من تفعيل نظام ستار لينك ليتمكّن أهل القطاع المحاصر من التواصل مع العالم.

ومن جهة أخرى فقد أثبتت الفصائل المقاوِمة في غزة قدرتها في الحفاظ على شبكة الاتصال في ما بينها عبر قيامها بإنشاء بنية تحتيّة سلكيّة خاصّة بها، جنّبتها التأثر بقطع الإرسال والبث، كما مكّنتها من التّصدّي لعمليّات التشويش التي يقوم بها الاحتلال مع كلّ توغل برّيّ، ولابدّ أن ندرك كذلك أن هذه البنية التحتيّة لم تًنجَز في ليلة وضحاها، بل أُسِّست وبُنيت  عبر سنوات من التخطيط والتنفيذ والربط بين القطاعات المختلفة.

وقد كان واضحًا بعد كلّ ما وقع في هذه الحرب أن الحلّ الوحيد يكمن في بناء نظام تكنولوجي عربيّ مستقل، ربّما عبر إقرار قانون ونظام عربي مشترك لا يمكّننا من تنظيم عملية الاتّصال التكنولوجي في الوطن العربي فحسب، بل يعيد هيكلتها وبناءها لتصبح قادرة على الاستقلال بذاتها عمّن سواها، فما المانع مثلا من بناء نظام تواصل اجتماعي كفيسبوك وإنستغرام وتويتر وغيرها الكثير والكثير من المنصّات ؟ وما المانع من تطوير شبكة أبراج وأقمار اصطناعيّة وخوادم خاصة بوطننا العربي ؟

ألن نستطيع حينها إدارة المحتوى العربي كما نشاء وبفعالية أكبر بحيث نتمكّن من جعله مطابقا لكلّ المعايير التي نرغب بتطبيقها، انطلاقا من جعله ملائمًا لاستخدام الأطفال ضمن ضوابطنا وقوانينا وأعرافنا الاجتماعية والثقافية والدينية، وانتهاء بتطويعه أداةً سياسيّة وقوة ناعمة نستطيع من خلالها تصدير الصورة الحقيقيّة والواقعية لشعوبنا ودولنا دون أن ننتظر من الغرب أن يتعاون معنا أو يؤيّد أهدافنا ورسائلنا، وهو ذاته الذي أظهر انحيازه سلفا في قضايا شتّى، آخرها ما تجلّى من صمّ الآذان وإغلاق العيون وكتم الأنفاس عن كلّ ما ارتُكب من مجازر في حق المدنيّين من أهل غزة.

ومن هذا المنطلق فإن الأردن قادر على إثارة وتحريك هذا الموضوع قدُمَا، والسير فيه على مستوى الوطن العربي والشرق الأوسط ككل؛ فمبادرة مليون مبرمج أردني التي أطلقها سموّ وليّ العهد الحسين بن عبد الله الساعية لدعم وتأهيل ما يتجاوز مليون شخص، أيّ ما تقترب نسبته من عُشر سكّان الأردن، ليصبحوا مبرمجين أو تقنيين أو فنيين في مجال تكنولوجيا المعلومات وأنظمة الحاسوب، هي خطوة إيجابيّة رائدة في الاتجاه الصحيح لتنشئة موارد بشريّة قادرة على تنفيذ هذه المخطّطات، إضافة إلى مبادرات أخرى مختلفة تعنى بالمحتوى العربي كمبادرة “ضاد” التي أطلقها سموّه بالتعاون مع مَجمع الّلغة العربية، بهدف تطوير المحتوى العربي عبر الانترنت، ولا ننسى طبعًا أن الأردن هو صاحب الرصيد الأكبر من المساهمات في كتابة ونشر المحتوى المكتوب باللّغة العربية عبر الإنترنت، بنسبة تقدر بخمسة وسبعين بالمئة منه على مستوى الوطن العربي والعالم، وفق تقرير نشرته وكالة الأنباء الأردنيّة بترا عام 2014م، ولا يزال الأردن محافظا على هذا المستوى وفق دراسة نشرها المعهد الاقتصادي لمجلس منطقة الخليج في ولاية سان فرانسيسكو العام الماضي.

كل هذا وأكثر يجعل الأردن قادرًا على قيادة هذه المرحلة الجديدة من الاستقلاليّة العربية الإلكترونية بفاعلية، وبالتعاون مع سائر الدول العربية والإسلامية، لما يصبّ في مصلحة الأمن القوميّ العربيّ المشترك، في مجال لا يزال يتطوّر كلّ يوم بشكل مُرعب ومتسارع حتى أمسى لغة عصرنا الحالي.

فهل يعقل أن نبقى على حالنا هذا حتى يأتي يوم تتعرّض فيه إحدى بلداننا لكارثة كان من الممكن تجنّبها لو امتلكنا البنى التحتيّة والأدوات اللازمة ؟ أم ترانا ننتظر أن يأتي يوم نتعرض فيه لهجوم سيبرانيّ خطير كالذي تعرّضت له إيران حين قام الاحتلال بضرب مفاعلاتها النووية بهجوم فيروسيّ كاد أن يوقع كارثة حقيقيّة، ليس على المستوى السياسيّ فحسب، بل على جميع المستويات العسكريّة والاجتماعيّة وحتى البيئيّة.

ألم يحن الوقت بعد كي ندرك أنّ حالنا هذا لا يحتمل التأخير أكثر؛ فالسّعي نحو الاستقلال المعلوماتيّ والتقنيّ ليس فكرة جديدة وطارئة، بل هي واقع موجود ومطبّق عند أمم وشعوب مختلفة؛ فنجد مثلا دولتين عظيمتين كالصّين وروسيا، تمتلك كلّ منهما نظامها التقنيّ الخاصّ ومنصاتها الخاصّة الناطقة باللّغتين الصّينيّة والروسيّة، وعليه تستطيع كلّ دولة منهما طرح أفكارها وتطلعات شعوبها استنادا إلى نظامها الخاصّ، دون الحاجة لاستعمال منصّات غربيّة، بل إنّ الأمر امتدّ إلى أكثر من ذلك بقيام كل منهما بصناعة محركات بحث خاصة تنافس أكبر الشركات العالمية، مثل محرك بحث جوجل، وقد كان فعلا أن دخلت الصين في منافسة شرسة مع الولايات المتحدة الأمريكيّة، وصلت إلى حدّ حظر بعض البرمجيّات والمنصّات، وقد كانت لذلك تبعات اقتصادية واجتماعية عديدة.

فأين نحن من هذه الدول؟ وماذا ننتظر من مصائب لتقع على رؤوسنا حتى نعي أنه لا يمكن تحقيق الأمن في المنطقة إلا بتحقيق أمن قومي عربي مشترك وشامل، يتوّج رحلة شعوبنا وأمتنا في البحث عن استقلالها وعزّتها؟!

فايز عبد الله ماضي

مهندس في قطاع تكنولوجيا المعلومات