لم يكن صعود مصر 47 مركزا دفعة واحدة في مؤشر نضج الحكومة الرقمية لعام 2025 مجرد تحسن تدريجي في ترتيب دولي، بل قفزة حادة تنقل الدولة المصرية من المركز 69 إلى المركز 22 عالميا، والانضمام إلى الفئة (A) الأعلى في المؤشر الصادرعن البنك الدولي، مايعكس وفقا لمنهجية المؤشر تحولا يتجاوز عدد الخدمات المتاحة إلكترونيا إلى طريقة تصميم وتشغيل الدولة نفسها في المجال الرقمي .
فمؤشر نضج الحكومة الرقمية لا يكافئ الدول على الواجهات، بل على العمق حيث يقيس قدرة الدولة على الانتقال من رقمنة الإجراءات إلى إعادة هندسة الخدمة، ومن العمل داخل جزر مؤسسية إلى تكامل عابر للوزارات، ومن التعامل مع المواطن كطالب خدمة إلى اعتباره محور التصميم، لذلك فإن القفزة اللافتة على مستوى الدولة المصرية تعني نظريا أن هناك تقدما متزامنا في أكثر من محور وهو ما لا يتحقق عادة إلا عندما تتحول الرقمنة إلى أولوية دولة لا مشروعًا تقنيا منفصلا .
الخبراء أشاروا إلي أن هذا الصعود يرجع بشكل رئيسي إلى مسار تراكمي تسارع في السنوات الأخيرة، خاصة مع الاتجاه نحو توحيد قنوات تقديم الخدمات الحكومية ، وتوسيع نطاق الخدمات ذات الاستخدام الجماهيري، وتقليل الاعتماد على المستندات الورقية، وأيضا الانتقال ولو جزئيا إلى منطق النافذة الواحدة والتي تعد عنصرا رئيسيا في تحسين مؤشرات النضج، لأنه يقلل الاحتكاك بين المواطن والدولة، ويعزز مؤشرات الاستخدام الفعلي، وهي من أكثر النقاط وزنًا في تقييمات البنك الدولي.

وأشاروا إلي أنه لا يمكن فصل هذا التحسن على مستوى مؤشر نضج الحكومة الرقمية عن تطور البنية التحتية للاتصالات، فالدولة المصرية أصبحت تعتمد على شبكات اتصالات مستقرة نتيجة تنوع البنية التحتية وتحديثها المستمر، وأنظمة دفع موثوقة، ومراكز بيانات قادرة على التوسع، وبشكل خاص أطر أمن سيبراني تحمي الثقة العامة، منوهين إلي أن كل قفزة في الرقمنة تعني مضاعفة مساحة الهجوم المحتملة، وإذا لم تتقدم الحوكمة بنفس السرعة، يصبح الإنجاز نقطة ضعف.
ولفتوا إلي إن قفزة مصر في مؤشر نضج الحكومة الرقمية يعني دخولها مرحلة اختبار أصعب حيث سيقاس قدرة الدولة على تحويل هذا النضج إلى قيمة اقتصادية مستدامة، وتجربة إنسانية عادلة، وثقة رقمية طويلة الأمد، مشيرين إلي أنه في ظل عالم تتحول فيه الحكومات إلى منصات رقمية لا يكفي أن تكون الدولة رقمية، بل يجب أن تكون ذكية، وآمنة، وقادرة على التطور بنفس سرعة التكنولوجيا التي تعتمد عليها.
مؤشرات رقمية واضحة
وتستند هذه القفزة إلى مؤشرات رقمية واضحة، في مقدمتها إتاحة أكثر من 170 خدمة حكومية رقمية عبر منصات رسمية موحدة، إلى جانب التوسع في رقمنة المدفوعات الحكومية، وربط آلاف الجهات العامة، وهو ما يضع الأساس العملي لتبني تطبيقات الذكاء الاصطناعي والحكومة الذكية القائمة على البيانات، من التنبؤ بالطلب على الخدمات، إلى أتمتة القرار وتحسين كفاءة الإنفاق العام، بما يقلل الاحتكاك البيروقراطي ويخفض تكلفة وزمن إنجاز الأعمال، ويخلق بيئة أكثر جذبًا للاستثمار، ويفتح مساحات نمو حقيقية أمام الشركات الناشئة في مجالات التكنولوجيا الحكومية والذكاء الاصطناعي.
وكانت مصر قد حققت قفزة في مؤشر نضج الحكومة الرقمية خلال السنوات الخمس الماضية، حيث انتقلت من فئة الدول ذات الأداء المرتفع (ب) بنسبة نضج بلغت 0.649 عام 2020، إلى الفئة الأعلى (أ) بنسبة 0.751 عام 2022، لتعزز مكانتها هذا العام في الفئة (أ) مع تحقيق تقدم في نسبة النضج بمعدل 21.3% بما يضع مصر في مصاف الدول الرائدة عالميًا في مجال نضج الحكومة الرقمية.

قال الدكتور عمرو طلعت وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات إن التقدم اللافت الذي حققته مصر في مؤشر نضج الحكومة الرقمية لعام 2025 يعكس تحولًا حقيقيًا في طريقة تصميم وتشغيل الخدمات الحكومية، موضحًا أن المؤشر لا يقيس فقط رقمنة الخدمات الحالية، بل يمتد إلى تقييم خطط الحكومة المستقبلية، وعمق وكفاءة الاستراتيجية الرقمية، وقدرتها على تقديم خدمات متكاملة وعابرة للجهات، وهو ما جعل هذا التقدم تتويجًا لمسار ممتد لا نتيجة خطوة منفردة.
منصة مصر الرقمية
وأشار الوزير إلى أن نقطة التحول الأساسية بدأت مع إطلاق منصة مصر الرقمية، التي مثلت إطارًا موحدًا لتقديم الخدمات الحكومية، حيث شهد التصنيف الدولي لمصر تحسنًا متدرجًا منذ عام 2020، ثم تسارع الزخم مع الإطلاق الفعلي للمنصة بعدد محدود من الخدمات، قبل أن تتوسع تدريجيًا لتشمل عشرات الخدمات ذات الاستخدام الجماهيري، مع إتاحة قنوات متعددة للحصول عليها، سواء عبر التطبيق الإلكتروني أو من خلال مكاتب البريد، لضمان الشمول الرقمي وعدم إقصاء الفئات الأقل استخدامًا للتكنولوجيا.
وأوضح طلعت أن التوسع في الخدمات الرقمية لم يكن ممكنًا دون تطوير متزامن للبنية التحتية الرقمية، ورفع كفاءتها، إلى جانب دعم الجهات الحكومية فنيًا وتشغيليًا، وتبني سياسات وتشريعات مساندة، من بينها إتاحة البيانات المفتوحة، بما يعزز الشفافية، ويرفع جودة القرار، ويدعم التكامل بين المنصات الحكومية المختلفة، مؤكدًا أن البنك الدولي يرصد هذا التطور بشكل دوري، وهو ما انعكس على تحسن مؤشرات النضج خلال السنوات الأخيرة.
وأكد الوزير أن الاستثمار في بناء القدرات الرقمية يمثل ركيزة أساسية في هذا التحول، سواء من خلال تأهيل الكوادر التكنولوجية المتخصصة، أو رفع المهارات الرقمية للعاملين بالجهاز الإداري للدولة، بما يضمن استدامة هذا التقدم، مشيرًا إلى أن القفزة التي حققتها مصر خلال خمس سنوات تعكس انتقالها من تحسين الأداء الرقمي إلى ترسيخ نموذج حكومة رقمية أكثر نضجًا، قادرة على التطور، وتقديم خدمات أكثر كفاءة، ودعم مسار التحول الرقمي الشامل للدولة.

رافعة اقتصادية
من جانبه يقول الدكتور محمد عزام خبير تكنولوجيا المعلومات: هذا التصنيف يعكس صورة وشكل التحول الرقمي الذي حدث في مصر في الفترة الأخيرة، مع إعادة الهيكلة التي حدثت بما يتناسب مع البيئة الرقمية، وهذا لا يتم على مرحلة واحدة، ولكنه جاء من خلال مراحل مختلفة وعملت وزارة الاتصالات على تهيئة البيئة المناسبة للحكومة الرقمية، وكل مرحلة يجب إعادة الإجراءات وتشكيلها لتكون الخدمات الرقمية أسرع وأسهل على طالب الخدمة، فنحن نتحرك إلى الأمام ويجب العمل دائما على أن تذهب الخدمة للمواطن وليس العكس، وهذا هو الهدف الأساسي للتحول الرقمي، كما أن مصر خطت خطوات جيدة في عصر البيانات، من خلال الاهتمام بمراكز البيانات.
ويضيف أن هناك العديد من الخطوات الأخرى التي يجب القيام بها حتى يرتفع تصنيفنا، منها إعادة النظر في التشريعات، واستمرار البنك المركزي في تقديم الخدمات التي تواكب التطورات الرقمية، حيث إنه أطلق خدمة التعرف على الشخصية أو التعرف عن بعد، ففي هذا العصر لا نحتاج إلى الذهاب لأي جهة لإثبات الشخصية، فأصبح ذلك يتم بشكل رقمي، فهذه الخدمة ستسهل الأمور على المواطنين وستكون خدمة كبيرة ومهمة في طريق التحول الرقمي،
ويشير إلى أن من ضمن العوامل الرئيسية التي جعلت مصر تقفز 47 مركزا دفعة واحدة هو العمل على تحديث الخدمات الموجودة بمنصة مصر الرقمية وتطويرها، حيث أصبح هناك أكثر من 170 خدمة يستخدمها 10 مليون مواطن، مما يعكس تطورا في التحول الرقمي وفي ثقافة الناس التكنولوجية، حيث إنهم إذا وجدوا التكنولوجيا سهلة وآمنة سوف يستخدموها، ويؤكد أنه يجب النظر إلى الخدمات التي تقدم وهل تحقق الغرض منها أم لا، وهل هناك ملاحظات من المواطنين ويتم الاهتمام بها أم لا، وهذا يرفع من التصنيف بشكل كبير، وكل الملاحظات يتم تحليلها باستخدام الذكاء الاصطناعي.
ويرى عزام أن الحكومة نجحت في تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي، والتي تعمل في الخلفية، حيث إن معالجة ملاحظات المستخدمين وترابط الخدمات وإعادة هيكلتها وتوحيد قواعد البيانات والربط بينها وتحليلها بشكل يمنح متخذ القرار صورة أكثر دقة كل ذلك يكون باستخدام الذكاء الاصطناعي، مضيفا أن هناك نية لدى الحكومة للتطور في هذا الشأن بصورة أكبر.
ويضيف أننا في حاجة دائمة إلى مواكبة التطور التكنولوجي الذي يحدث حول العالم، بالإضافة إلى تأهيل الكفاءات البشرية باستمرار، إذ يجب الاستثمار في المواهب المتميزة وإلحاقهم بالجامعات الأمريكية والعالمية، للحصول على الخبرة الكافية، ومن ثم العودة بأفكار مبتكرة وإطلاق شركات ناشئة تدعم الصادرات التكنولوجية، بالإضافة إلى منح الشركات الناشئة الكثير من الفرص والتسهيلات للاعتماد عليها في هذا الاتجاه، وكل ذلك سيجذب استثمارات خارجية ومن ثم سيعود بالفائدة على الرقمنة وعلى الاقتصاد بشكل عام.

من جانبه قال الدكتور وليد جاب الله الخبير الاقتصادي، هذا التقدم بوصفه أحد المؤشرات المبكرة على أن الحكومة الرقمية في مصر بدأت تتحول من أداة خدمية إلى رافعة اقتصادية. فالنضج الرقمي، من وجهة نظره، لا ينعكس فقط على سرعة الخدمة أو عددها، بل على قدرة الدولة على بناء منظومة جاذبة للاستثمار التكنولوجي وتصدير الخدمات الرقمية عالية القيمة، مؤكدا أن ما تحقق في المؤشر يرتبط مباشرة بتوجه الدولة نحو توفير بيئة تنظيمية وحوافز استثمارية قادرة على جذب الشركات العالمية والمحلية، بما يحول الحكومة الرقمية إلى جزء من البنية التحتية للاقتصاد الرقمي، لا مجرد واجهة إدارية.
نقطة فاصلة
وأضاف أن أحد أهم دلالات هذا الصعود هو الانتقال من منطق ميكنة ما هو قائم إلى منطق التساؤل حول ما الذي يجب أن تقدمه الدولة رقميًا من الأساس”، وهو ما يتسق مع توصيف خبراء التحول الرقمي للمرحلة الحالية بأنها نقطة فاصلة بين الرقمنة الشكلية والتحول المؤسسي العميق، منوها إلي هذا التحول يفتح المجال أمام إعادة توظيف البيانات الحكومية، وتكامل الخدمات، وربطها بسلاسل القيمة الاقتصادية، بما يعزز قدرة مصر على التحول إلى مركز إقليمي لتصدير التكنولوجيات والخدمات الرقمية.
لكن جاب الله، لفت في الوقت ذاته إلى أن النضج الرقمي، مهما بلغ، لا يتحول تلقائيًا إلى ميزة تنافسية دون سياسات تكميلية، وعلى رأسها البحث والتطوير. فالدول التي حققت قفزات تكنولوجية كبرى لم تفعل ذلك عبر تعميم الجهود، بل عبر التخصص الذكي في مجالات بعينها. ومن هذا المنطلق، يرى أن على مصر أن تستثمر نضجها الرقمي في بناء بصمة واضحة في مجالات محددة، مثل الذكاء الاصطناعي التطبيقي في قطاعات حيوية ك الزراعة أو الصحة، بحيث تصبح الحكومة الرقمية منصة داعمة للابتكار، وليست مجرد قناة تقديم خدمات.
ويتكامل هذا الطرح مع رؤية المهندس روماني رزق الله، استشاري تكنولوجيا المعلومات، الذي يعتبر أن تحسن ترتيب مصر في مؤشر نضج الحكومة الرقمية عزز مصداقيتها كمركز إقليمي محتمل للصادرات الرقمية وصناعة التعهيد. فالمؤشر، بحسب رزق الله، يرسل إشارة واضحة للأسواق العالمية بأن الدولة تمتلك حدًا متقدمًا من الجاهزية المؤسسية والبنية التحتية الرقمية، وهو عنصر حاسم في قرارات الشركات الدولية عند اختيار مواقع التوسع وتقديم الخدمات العابرة للحدود.

النضج الرقمي
وأشار إلي أن النضج الرقمي الحكومي يشكل حجر الأساس لتحقيق الأهداف الثلاثة لصناعة التعهيد في مصر: مضاعفة الصادرات الرقمية، خلق فرص عمل مستدامة للشباب، وبناء علامة تجارية رقمية للدولة. فكل تحسن في تكامل الخدمات الحكومية، وسرعة الإجراءات، ووضوح الأطر التنظيمية، ينعكس مباشرة على خفض تكلفة ممارسة الأعمال، ويمنح الشركات العاملة في التعهيد والتكنولوجيا بيئة أكثر قابلية للتنبؤ، وهو ما يرفع تنافسية السوق المصرية مقارنة بدول أخرى في المنطقة.
وربط رزق الله بين تقدم مصر في المؤشر وبين توسعها في إنشاء مراكز البيانات وتطوير البنية التحتية للاتصالات، معتبرًا أن هذه العناصر تمثل العمود الفقري لأي حكومة رقمية ناضجة. فوجود مراكز بيانات محلية، وشبكات مؤمنة، وتكامل بين الجهات الحكومية، لا يعزز فقط كفاءة الخدمات العامة، بل يخلق قيمة مضافة لصادرات التعهيد والخدمات الرقمية عالية القيمة، خاصة تلك المعتمدة على الحوسبة السحابية والعمل عن بُعد.
ومع ذلك، حذر رزق الله من أن الحفاظ على هذا المستوى من النضج يتطلب استثمارًا مستمرًا في جودة خدمات الإنترنت واستقرارها، لأن الاقتصاد الرقمي لا يحتمل الانقطاعات أو التذبذب في الأداء. فالشركات التي تعتمد على الحكومة الرقمية كبنية داعمة لعملياتها تعمل في بيئات افتراضية بالكامل، وأي خلل في البنية التحتية قد يقوض الثقة التي بناها تحسن الترتيب الدولي.
وعلى مستوى رأس المال البشري، أكد على أن التعليم يمثل الحلقة الأكثر حساسية في معادلة الاستدامة. فالنضج الرقمي الحكومي، مهما بلغ، يظل محدود الأثر دون كوادر قادرة على استثماره. ويؤكد رزق الله أن ربط المناهج التعليمية بمتطلبات سوق التعهيد المتقدم، وإنشاء مسارات تعليمية وأكاديميات متخصصة، يمثلان امتدادًا طبيعيًا لمنظومة الحكومة الرقمية، لأن الدولة في هذه الحالة لا تكتفي بتقديم خدمة رقمية، بل تبني سوق عمل رقميًا متكاملًا.








