قبل نحو عام، أي في نوفمبر 2022، برز أمام العالم مشهد مثير في مجال الذكاء الاصطناعي. وتمثل هذا المشهد في “نموذج لغوي” قادر على التواصل بلغات عديدة، وعلى الإجابة عن أي تساؤل، إضافة إلى إعداد تقارير في موضوعات مختلفة علمية، واقتصادية، واجتماعية، وحتى إنسانية. صدر هذا النموذج عن شركة “الذكاء الاصطناعي المفتوح”، ومقرها مدينة سان فرانسيسكو، التابعة لولاية كاليفورنيا الأمريكية، وعرف “بالمحاور المدرب تشات – جي بي تي”.
أعطى هذا النموذج اللغوي مثالا أوليا لما يمكن للذكاء الاصطناعي أن يستوعبه من معلومات، وما يمكن أن يقوم به من عمليات تبدو كأنها إدراكية تماثل ما يمكن أن يقوم به الإنسان، ولكن بسرعة أكبر وكفاءة أعلى. وإذا كان هذا النموذج قد أدهش العالم بأسره بما لديه من إمكانات، فإن لدى الذكاء الاصطناعي قدرات أكبر، وأكثر إعجازا، يجدر بنا أن نتابعها، ليس فقط لنتعرف على توجهات المستقبل، بل لنسعى إلى الاستجابة لهذه التوجهات، ونعمل على الإسهام فيها، والتأثير في معطياتها.
لعل جامعة ستانفورد، الأمريكية الشهيرة، من أهم مراصد ما يجري بشأن الذكاء الاصطناعي حول العالم. أصدرت هذه الجامعة، وعلى مدى الأعوام الستة السابقة، تقريرا سنويا حول مشهد الذكاء الاصطناعي في العالم، هو “تقرير دليل الذكاء الاصطناعي”. يتمتع هذا التقرير بأهمية كبيرة لأن تطور الذكاء الاصطناعي يحمل وعودا بتغيرات كبيرة، اقتصادية واجتماعية وإنسانية، في حياة الإنسان في المستقبل، وقد بدأت ملامح تحقيق هذه الوعود في الظهور فعلا على أرض الواقع اليوم. تتعزز أهمية التقرير خاصة، انطلاقا من مستوى الموثوقية المرتفع الذي تتمتع به جامعة ستانفورد المرموقة، أي الجهة التي تولت مسؤولية إعداد التقرير وإصداره. غاية هذا المقال تقديم نظرة أولية إلى الدليل في إصداره الأخير، لعام 2023. وتطرح هذه النظرة توجهات الدليل، والجهات التي أسهمت في إنجازه، وملامح مشهد الذكاء الاصطناعي الذي يقدمه، وآفاق المستقبل بشأنه.
إذا بدأنا بتوجهات الدليل، لوجدنا أن الرسالة التي يحملها تشمل إجابات عن ثلاثة تساؤلات رئيسة. أول هذه التساؤلات هو ماذا يريد هذا الدليل أن يفعل. وتقول إجابة هذا التساؤل “إنه يعمل على تقديم بيانات مدروسة ودقيقة وغير منحازة تستند إلى مصادر واسعة النطاق”. أما التساؤل الثاني فيسير خطوة إلى الأمام مستفسرا عن الجهات المستهدفة بالدليل. وتأتي الإجابة هنا لتقول إن هذه الجهات تشمل “صناع السياسات، والباحثين، والمديرين التنفيذيين، والعاملين في الإعلام، وكذلك الناس جميعا”. ويبرز التساؤل الثالث بعد ذلك باحثا عن الغاية المنشودة، ليجد الإجابة تقول “إنها تقديم فهم أكثر شمولية ودقة لموضوع الذكاء الاصطناعي المهم”.
حظي الدليل، في سعيه إلى تحقيق رسالته، بعمل ودعم جهات مختلفة. فقد صدر عن معهد الشؤون الإنسانية للذكاء الاصطناعي التابع لجامعة ستانفورد. وفي هذا الإطار، كان للدليل لجنة توجيهية شملت 11 خبيرا بعضهم من جامعات أخرى، وكان له أيضا فريق بحثي تنفيذي من 15 باحثا بينهم تسعة من الطلاب. وحصل الدليل على بياناته عبر التعاون مع 11 منظمة، وعديد من الباحثين الآخرين. كما تلقى دعما من 13 شركة بينها كل من شركة جوجل، وشركة الذكاء الاصطناعي المفتوح، صاحبة “المحاور المدرب تشات ـ جي بي تي”.
يرى الدليل مشهد الذكاء الاصطناعي من خلال ثمانية محاور رئيسة تسعى إلى تغطية مختلف جوانبه من أجل تحقيق رسالته المأمولة. أول هذه المحاور هو محور البحث والتطوير في مجالات الذكاء الاصطناعي المختلفة، وما يتلقى من دعم حول العالم، أما المحور الثاني فهو محور أداء الذكاء الاصطناعي، وما يقدم من معطيات. ويطرح المحور الثالث بعد ذلك موضوع أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، التي تثير قلقا لدى كثيرين مع تطور إمكانات هذا الذكاء. ويركز المحور الرابع على الشؤون الاقتصادية للذكاء الاصطناعي، بما يشمل شؤون الاستثمار والعمالة، ويضاف إلى ذلك أثره في الشركات التي اتجهت نحو تبنيه في المجالات المختلفة.
يهتم المحور الخامس للدليل بمسألة الذكاء الاصطناعي كموضوع أساسي في التعليم، ويتطرق في ذلك ليس فقط إلى التعليم التخصصي في المعاهد والجامعات، بل إلى التعليم العام أيضا. ويطرح المحور السادس شؤون التخطيط للذكاء الاصطناعي وحوكمته على مستوى الدول. ثم يتوجه المحور السابع نحو شؤون التعددية، بمعنى تعددية انتماء العاملين في مجال الذكاء الاصطناعي إلى دول وأعراق مختلفة، إضافة إلى دور المرأة في هذا المجال مقارنة بدور الرجل. ويركز المحور الثامن والأخير على آراء الناس، في دول العالم المختلفة، في موضوع الذكاء الاصطناعي وآفاقه المستقبلية.
لعلنا بعد طرح المحاور الستة لدليل الذكاء الاصطناعي المطروح، نتطرق إلى بعض النتائج الرئيسة التي أوردها الدليل. تقول هذه النتائج التالي، تتفوق الشركات الصناعية، ومنذ 2014، على المؤسسات الأكاديمية، في تطوير نماذج جديدة في الذكاء الاصطناعي. وتشير الاستنتاجات أيضا إلى أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي يمكن أن تفيد في تحسين البيئة، كما أنها يمكن أن تؤدي إلى الإساءة إليها تبعا لاستخدامها. يضاف إلى ذلك أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي قد أسهمت في تعزيز تقدم معطيات مجالات مختلفة، وشمل ذلك، على سبيل المثال، الحد من التكاليف وزيادة العوائد، لكن استخداماته الضارة، للأسف، تبدو متجهة نحو التزايد. وتبين النتائج كذلك تزايد الحاجة إلى مهنيين مختصين في الذكاء الاصطناعي، وتزايد اهتمام صناع السياسات بشؤونه. وتشير النتائج أخيرا إلى أن الصينيين أكثر إيجابية في نظرتهم إلى مستقبل الذكاء الاصطناعي من الأمريكيين.
ألقى هذا المقال بعض الضوء على مشهد الذكاء الاصطناعي في العالم. لكن الموضوع يحتاج إلى مزيد، وهناك تفاصيل أخرى تحمل معطيات مهمة للمستقبل، يجدر التعرف على مضامينها. ولعلنا نعود إلى الموضوع في مقالات مقبلة -بمشيئة الله- عبر محاوره الثمانية التي طرحها دليل ستانفورد.
سعد علي الحاج
أستاذ في كلية علوم الحاسب والمعلومات – جامعة الملك سعود