تُبرَم الصفقات المرتبطة بالمحتوى بين شركات الذكاء الاصطناعي وأكبر دور النشر بوتيرة سريعة مصحوبة بالحماس. وأُعلن عن الصفقة الأحدث، والتي يُقال إنها الأكبر، في 22 مايو الجاري، حيث توصلت شركة “أوبن إيه آي” إلى اتفاق مع “نيوز كورب” التابعة لروبرت مردوخ، وتشير تقارير إلى أن قيمتها تقارب 250 مليون دولار على مدى 5 سنوات.
قال الرئيس التنفيذي لشركة “نيوز كورب”، روبرت تومسون، إن “الاتفاق يؤكد على أن هناك ثمناً أعلى للصحافة المتميزة”.
لم يُعلن رسمياً عن أي من بنود الصفقة، لكن مع افتراض أن صحيفة “وول ستريت جورنال” لن تنشر أخباراً مغلوطة عن مالكتها “نيوز كورب”، فإن قيمة الصفقة البالغة 250 مليون دولار ستتضمن “مقابلاً في صورة نقد، وأرصدة لاستخدام تكنولوجيا (أوبن إيه آي)”.
تعد الصفقة هي الأحدث ضمن موجة الشراكات التي أُعلن عنها خلال الأسابيع الماضية، حيث أبرمت جريدة “فاينانشال تايمز” صفقتها مع “أوبن إيه آي” الشهر الماضي، وتبعتها شركة “دوت داش ميريديث”، مالكة عدد من وسائل الإعلام المطبوعة، مثل مجلة “بيبول” وموقع “إنفستوبيديا” كما شملت هذه الصفقة تعاوناً بشأن الأدوات الإعلانية.
كذلك عقدت “أوبن إيه آي” صفقات أخرى، تشمل “أسوشيتد برس” و”أكسل سبرينغر” و”لو موند”.
بعد ضجة الصوت المشينة المحيطة بـ”تشات جي بي تي”، والتي ادعت فيها الممثلة سكارليت جوهانسون تشابه الصوت بدرجة كبيرة مع صوتها، فإن الشراكة مع “نيوز كورب” ستساعد الرئيس التنفيذي لشركة “أوبن إيه آي”، سام ألتمان، على أن يبدو مهتماً بالمساعي والجهود البشرية، وفي هذه الحالة، سيرتبط ذلك بالمهمة الشاقة والمُكلفة المتمثلة في نشر الأخبار. فكما قال: “نضع الأساس لمستقبل سيحترم فيه الذكاء الاصطناعي معايير الصحافة المرموقة على المستوى العالمي، ويطورها ويلتزم بها بشدة”.
مع ذلك، فإن تصريحات أشخاص مثل رئيس مجلس إدارة “لو موند”، لويس درايفوس، هي أبرز ما لفت انتباهي، فباعتباره أحد أحدث المستفيدين من إعجاب ألتمان الانتقائي بنشاط الصحافة، يظن المرء أن درايفوس سيتحدث بحماس، كما فعل نظراؤه في “نيوز كورب”، إلا أنه قال لصحيفة “وول ستريت جورنال”: دون اتفاق، كانت (أوبن إيه آي) ستستخدم محتوانا بشكل أكثر شمولاً وتكتماً دون أن نحقق أي استفادة”.
درايفوس محق، فالأرجح بالفعل أن “أوبن إيه آي” قد استهلكت منذ فترة طويلة المحتوى الذي تدفع حالياً مقابل “إمكانية الوصول إليه”، في إطار عملية الاستخراج واسع النطاق للمعلومات المتاحة ضمن نطاق الملكية العامة.
من هذا المنطلق، يجب النظر إلى تلك الصفقات على أنها اتفاقيات تسوية، وبلا شك تتضمن بنودها اشتراط عدم مقاضاة دور النشر لشركة “أوبن إيه آي”، كما فعلت صحيفة “نيويورك تايمز”. ولم ترد “أوبن إيه آي” على طلب للتعليق.
صفقات تفتقر للشفافية
علينا الاعتراف بالحقيقة؛ لا سبيل للإفلات من الذكاء الاصطناعي. ورغم أن دعوى “نيويورك تايمز” كانت محل إعجاب، فقد مرت 5 أشهر منذ رفعها، بل وتفصلنا شهور عن عقد جلسة استماع تمهيدية في قضية ترى الأغلبية أنها ستصل إلى المحكمة العليا في نهاية المطاف.
في غضون ذلك، يمكن لدور النشر قبول صفقة أو رفضها، علماً بأن الأرجح أن الآلة تستهلك محتواها بشراهة بغض النظر عن ذلك.
بطبيعة الحال، تقول “أوبن إيه آي” إنها تطور أداة لمساعدة دور النشر في الإبلاغ عما تريد استبعاده من نماذج تدريب “أوبن إيه آي”، لكنها لن تكون جاهزة للاستخدام قبل 2025 على أفضل تقدير. كما أن “أوبن إيه آي” مجرد واحدة من شركات عديدة تطور النماذج اللغوية الضخمة.
أرى أن تلك الصفقات سيئة، إذ تفتقر للشفافية والتدقيق الأخلاقي المناسب في الوقت نفسه. فمن يقدّر أهمية السلطة الرابعة حق تقدير لا يجب عليه أن يتقبل تصور أن شركات الذكاء الاصطناعي، التي يجب أن تخضع بحد ذاتها للتدقيق الصحفي، قد تصبح في يوم ما مسيطرة قصوى على القوة المالية لوسيلة إعلام مطبوعة، إذا واصلت نماذج الأعمال الأخرى انهيارها.
إذا أردت رؤية ما قد يبدو عليه ذلك الخضوع والتبعية، فانظر إلى المخاوف الحالية إزاء التغييرات الحديثة التي أجرتها “غوغل” على محرك البحث، أو قرار “ميتا بلاتفورمز” بالعزوف عن الاهتمام بزيادة المحتوى الإخباري بعد الآن.
دعم الصحف والمواقع الصغيرة لإثراء المحتوى
ربما تتمثل المشكلة الأهم في المدى الطويل في أنه لا يمكن أن يُترك بين يدي أشخاص مثل ألتمان، أو أي فرد أو شركة أخرى في الواقع، قرار تحديد أن أي من وسائل الإعلام المطبوعة تستحق معاملة تفضيلية في المستقبل القائم على الذكاء الاصطناعي، وأيها لا يستحق ذلك، فشركته لا تملك الخبرة الكافية، ولا الحق في ذلك.
ماذا عن الصحف المحلية الصغيرة أو المواقع-التي لم يتبق منها إلا القليل- التي تؤدي عملاً أقل إبهاراً مثل متابعة اجتماعات المجالس المحلية أو المجالس التعليمية؟ أو المجلات التجارية التي تنشر تقارير أكثر عمقاً عن قطاعات مثل الطاقة أو الهندسة؟ هل نريد أن تخلو نماذج الذكاء الاصطناعي من ثراء (المحتوى) الذي تنشره وسائل الإعلام المطبوعة المستقلة؟ فلا أرى ألتمان يطرق أبوابها محملاً بالمال، رغم أن تلك الصحف والمجلات تشملها بيانات التدريب بالفعل على الأرجح.
إذا كان الذكاء الاصطناعي سيصبح حقاً مركزاً للمعرفة، فيجب دعم تلك المصادر أيضاً، وعدم اقتصاره على دور النشر العملاقة التي تخشى “أوبن إيه آي” من أن تقاضيها.
اقتراح بإنشاء منصة موحدة للمحتوى
ينبغي إنشاء نظام أكثر إنصافاً يدعمه القانون. وعن ذلك كتبت كورتني رادش، مديرة مركز الصحافة والحرية في معهد الأسواق المفتوحة: “الصفقات المفصلة حسب الطلب والسريّة مع وسائل الإعلام الأكبر أو الأكثر تأثيراً ليست بديلة عن السياسة العامة”. فيما اقترح الكاتب وأستاذ الصحافة جيف جارفيس مقاربة تتمثل بإنشاء منصة مركزية يديرها ائتلاف من دور النشر. فيمكن عبر ذلك جمع المحتوى من أي دار نشر مُشارِكة وإتاحته بشكل فوري وديناميكي لشركات الذكاء الاصطناعي مقابل رسم يُحدد وفق الاستهلاك أو أي مقياس آخر يُتفق عليه.
ربما توفر “أسوشيتد برس”، التي تأسست قبل 178 عاماً، بعض الإلهام في هذه الحالة، فوكالة الأنباء غير الهادفة للربح أسستها ومولتها صحف لحل التحديات التقنية التي واجهتها في تلك الفترة، والتي تمثلت في نقل أخبار الحرب المكسيكية الأميركية بسرعة أكبر إلى القراء شمالاً.
رغم أن مشكلات العصر الحالي أكثر تعقيداً بكثير، إلا أن بداية الحل قد تتمثل في مبدأ ثبتت صحته في 1846، وما يزال صحيحاً في عصرنا الحالي؛ مُنشئ المحتوى هو من يجب أن يتحكم فيه.
ديف لي
كاتب العمود التكنولوجي الأمريكي في بلومبرج أوبينيون