ثمة خبر سار يقول أن التقدم في التكنولوجيا المالية (FinTech) سيسهم في تحسين حياة العملاء، أما الخبر السيئ؛ فهو أن الكثير من المستثمرين سيخسرون أموالهم أثناء حدوث ذلك في ظل استثمار قياسي بلغ 98 مليار دولار في النصف الأول من عام 2021 فقط، لتتجاوز بذلك القيمة الإجمالية حاجز تريليون دولار على مدى العقد الماضي؛ تعد المبالغ المتعلقة بهذا المجال مذهلة.
وبرغم أن بعض الشركات تعتبر مذهلة؛ فإن العديد من شركات التكنولوجيا المالية تشكل استثماراً ضعيف المستوى تكتنفه عيوب خطيرة في نماذج أعماله وأدائه التشغيلي، وإننا في عصر يشهد تغيراً تكنولوجياً هائلاً، لكن الأموال الرخيصة والحاجة إلى النمو ضللت العديد من المستثمرين فيما يتعلق بالمخاطر.
لذا يتعين على المستثمرين التركيز أولاً على المنتج الأساسي، وعادةً ما تدور الأسئلة الرئيسية حول المشكلة التي تحاول شركة التكنولوجيا المالية حلها؟ وهل تضيف قيمة للعملاء؟ وهل المنتج التابع لها أفضل من منافسيه؟.
ومن المثير للدهشة أنني رأيت الكثير من شركات التكنولوجيا المالية التي يبدو كأنها لم تطرح مثل هذه الأسئلة الأساسية، وخير مثال على ذلك؛ هو العدد الهائل من شركات الـ”بلوك تشين” التي يحاول الكثير منها إيجاد مشكلة قد تتناسب مع حلها المتصور، وربما تكون منتجاتها متطورة تقنياً، لكن هل هي كافية للعملاء للانتقال إليها؟.
المشكلة الأوسع نطاقاً، هي أن العديد من الشركات تفتقر إلى استراتيجية حيوية قابلة للتطبيق, فغالباً ما يشار إلى تسارع وتيرة طرح المنتجات أو واجهة المستخدم سهلة الاستخدام أو التكنولوجيا المبتكرة باعتبارها مزايا تنافسية رئيسية، لكنها ليست استراتيجيات في حد ذاتها، وتكاليفها ليست أقل في كثير من الحالات، يمكن للمنافسة أيضاً خفض تسعيرها، مما يؤثر سلباً في العوائد، وإلى متى يمكن لشركات، مثل شركة تحويل الأموال “وايز”، أو “ريفولوت”، النجاة إذا بدأ أحد العاملين الرئيسين في المجال مثل “إتش إس بي سي هولدينجز”، حرب أسعار من خلال تقديم أسعار الصرف الأجنبي ذاتها؟
ومما لا شك فيه أن الاستراتيجية الأساسية الرديئة هي الشائعة، ويمكن اكتشافها في الغالب من جانب الشركات التي تدخل أسواق “المحيط الأحمر”، التي تعرف بأنها سوق قائمة تتسم بمنافسة شرسة.
وعادة ما تحدد العائدات عبر قوى السوق، ويمكن أن تكون عرقلتها أمراً صعباً للغاية، وبالتالي؛ إذا لم تكن تمارس نشاطاً تجارياً بطريقة مختلفة تماماً؛ فستكون رهينة لمثل هذه القوى، وترى عوائد مخيبة للآمال.
ومن هنا؛ فإن الأداء الضعيف للبنوك الأوروبية المنافسة، مثل “مترو بنك”، أو “مونزو بنك”، أو “إن 26 جي إم بي إتش” المدعوم من رجل الأعمال بيتر ثيل، يجب ألا يكون مثيراً للدهشة، فهذه البنوك لم تفعل شيئاً يختلف اختلافاً جوهرياً عن العاملين الرئيسين في هذا المجال، وكما قال ثيل، فإن معظم الشركات تفشل لأنها فشلت في الأساس في الهرب من المنافسة.
على النقيض من ذلك، تم تجاهل استراتيجيات “المحيط الأزرق”، التي تعرف بأنَّها محيط يفتقر للمنافسة والفرص لخلق طلب جديد، ويمكن لاستراتيجية “المحيط الأزرق” البدء من موضع مناسب للسوق القائمة، لكن يمكنها التوسع أو حتى إنشاء سوق جديدة تماماً. وهذا هو المكان الذي تولد فيه عوامل الإعاقة الحقيقية، وأفضل مثال على ذلك هو “أمازون دوت كوم” التي بدأت في بيع الكتب، والتوسع في أسواق جديدة مثل الحوسبة السحابية.
من المؤسف أن العديد من فرق إدارة شركات التكنولوجيا المالية تفتقر إلى المهارات أو فهم تعقيدات الأسواق التي تحاول الدخول إليها.
وغالباً ما تكون الأسواق، التي تحاول الشركات إثارة اضطرابات فيها، شديدة التنظيم، وتخضع لديناميكيات معقدة، فقد واجهت شركات الدفع بالنقود الإلكترونية وقتاً عصيباً بشكل خاص.
كذلك، غالباً ما تكون المعرفة العميقة بالأسواق المالية غير متاحة، فربما كان المال أحد أقدم “التقنيات” القائمة، لكن العديد من مؤيدي العملات المشفرة يبدو كأنهم لا يدركون أنَّ “بيتكوين” في الأساس فكرة قديمة -أموال القطاع الخاص- لكن في شكل جديد، إذ تتمتع أموال القطاع الخاص بتاريخ حافل من التقلبات، ومعارضتها تأتي في الغالب مع الحكومات الساعية لحماية احتكارها للأموال، كما تكثر المغالطات السلوكية المعروفة مثل الاستخدام الواسع النطاق للطاقة؛ إذ يخلق قيمة متأصلة، لكن الواقع ليس كذلك. فتكلفة الخسائر هذه، كلاسيكية تقريباً.
هل هذا يعني إمكانية شطب عالم التشفير بأكمله بشكل عرضي باعتباره موضة
لا قيمة لها؟.. لا أعتقد ذلك، بل يبدو على الأرجح أن شيئاً ما سينبثق عن الابتكار الهائل في مجال الأصول الرقمية، لكنني أشك في أن العملات المشفرة التي مازالت في المرحلة المبكرة، ستثبت أنها الرابح النهائي ما لم تعالج هذه الأمور المهمة، ومن المؤكد أن تحقيق ابتكار صحيح في المرة الأولى، سيكون أمراً غير عادي على الإطلاق.
عادة ما تنبع مشكلات التكنولوجيا المالية المتعددة من قطاع رأس المال الاستثماري الأوسع نطاقاً، الذي نما بشكل هائل في الأعوام الأخيرة في ظل تدفق السيولة والضغط الهائل لتوظيف رأس المال.
والجدير بالذكر أن أسواق “المحيط الأحمر” موجودة بالفعل، ويمكن تحديد حجمها وقيمتها بسهولة نسبية، إذ ينتشر الفكر الجماعي على نطاق واسع، كما تجتذب مواضيع الاستثمار العصرية الكثير من رؤوس المال، لكنها تزيد من المنافسة.
وعلى النقيض من ذلك؛ قد تبدأ استراتيجيات “المحيط الأزرق” في أماكن لا تبشر بالخير، إذ يصعب كثيراً تصور إمكاناتها الحقيقية أو مدى مساهمة فرق الإدارة الماهرة في تنمية الشركات، فضلاً عن أنها تتطلب قدراً أكبر من الصبر.
في البداية، تشير نماذج الأعمال المعيبة إلى أن العديد من الشركات الناشئة العاملة في مجال التكنولوجيا المالية يبدو كأنها تركز بشكل أكثر مما ينبغي على الحصول على تقييم أعلى في جولة التمويل التالية، بينما تبدو الحاجة إلى أن تصبح شركة ربحية من الأمور الثانوية، ومن هذا المنطلق، غالباً ما يتم تضخيم التقييمات؛ نظراً للافتقار إلى الربحية، وبالتالي؛ ستعاني شركات عديدة في فترة الانكماش التالية.
وتأتي الثورات التكنولوجية غالباً في شكل موجات، وربما نكون قد قطعنا منتصف الطريق فقط من خلال ثورة متعددة العقود الزمنية، وهذه الثروات بإمكانها إحداث تغيير عميق بشأن كيفية تنظيم الأعمال التجارية والمجتمعات أيضاً بطرق يصعب التنبؤ بها، ويشار إلى أن التوسع في ثورة السيارات سمح بإقامة تجمعات سكنية في الضواحي، وغير الطريقة التي كنا نتسوق بها، واستناداً إلى التقييمات؛ يبدو أن السيارات أسهمت في جعل “وول مارت” فائزة أكبر من شركات السيارات نفسها.
وربما يقتضي الأمر أعواماً قبل ظهور الفائزين، وربما يكون أكبر الفائزين من صناعات أخرى تماماً.
وبدلاً من متابعة المواضيع العصرية ذات المبالغ الباهظة؛ ربما كان لزاماً على المستثمرين التفكير في المزيد من فرص “المحيط الأزرق”، أو التحلي بالصبر فحسب.
وتجدر الإشارة إلى أن بعض أفضل الأوقات للاستثمار في التكنولوجيا، جاءت في الدورة الأخيرة بعد الانهيار، وربما يعيد التاريخ نفسه.
تحليل كتبه: بن أشبي
شريك في Good Governance Capitalk، والعضو المنتدب السابق في مكتب الاستثمار والخزانة بجي بي مورجان