شهد العالم اختلاطاً وتداخلاً بين المفاهيم الجيوسياسية، وفي مقدمتها مفهوم الحرب، إذ لا يمرّ عقد من الزمن إلا ويتصدر مفهوم متعلق بالحرب واجهة الأحداث الدولية، مثل: الحرب الباردة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، والحرب الاستباقية، والحرب الاقتصادية والتجارية، والحرب العادلة، والحرب السبيرانية، وحرب الذكاء الاصطناعي.. وقد يكون مفهوم «الحرب الرخيصة» أو مفهوم الحرب المنخفضة الكلفة بمثابة آخر تجليات المعجم الجيوسياسي العالمي الذي بدأ يتبلور نتيجة للقدرة التي اكتسبتها دول وكيانات، من أجل الدفاع عن نفسها في مواجهة القوى الغربية التي تمتلك قدرات تكنولوجية رهيبة، ولكنها تعدّ مكلفة للغاية من الناحية المادية، وقبل الخوض في تفاصيل «الحرب الرخيصة»، نرى أنه من الأهمية بمكان أن نقدّم بعض الشروحات المتعلقة بمصطلح الحرب.
يشير برتراند بادي في قاموسه إلى أن الصراع بين الدول يعتبر عنصراً مؤسّساً للحروب بمجرد أن يسمح باللجوء إلى استعمال القوة، ومن ثم فإن الحرب تشير إلى وجود حالة نزاع يقوم في سياقها الخصوم بحسم خلافاتهم من خلال اللجوء إلى العنف، ويتم اعتبارها بمثابة المحصّلة النهائية لهوس التنافس المزمن الذي يدفع الدول للدخول في مواجهة بين بعضها، وذلك ما يجعل الحرب ترتبط بشكل وثيق بتنافس مفتوح على اكتساب القوة، بهدف دفع الخصم إلى الإذعان لإرادة صاحب القوة الصلبة الأكثر تأثيراً.
ويرى فريدريك إنسل من جانبه، أن الحرب هي الكلمة المهيمنة والخلفية الرئيسية والأفق المُمكن دائماً أو المحتمل أو على الأقل الذي لا يمكن استبعاده أبداً، وغالباً ما يكون مرعباً. إن الحرب تبدو لي ظاهرة لا يمكن القضاء عليها بشكل كامل، وأظن – يضيف إنسل – أنه يجب عزلها تدريجياً والحدّ من قدرتها على الانتشار وخفض حدتها والتقليل من وحشيتها في الزمان والمكان، وجعلها نادرة من خلال التصدي دون توقف للشروط والعوامل التي تفجّرها أو التي تطيل من أمدها.
وبالنسبة لمفهومنا الأساسي الذي نستعرضه في هذا السياق والمتعلق بالحرب المنخفضة الكلفة، فإن الكاتب جيل ميهايلي يتحدث عن تراجع قدرة الردع الغربية رغم تطور التكنولوجيا التي تمتلكها، في مواجهة أسلحة ذات أثمان زهيدة، ولكنها تخلق في المقابل صعوبات كبيرة لجيوش تم صرف تريليونات من الدولارات من أجل تجهيزها، وكأننا كما يقول برتراند بادي، في وضعية يمكن وصفها «بضعف القوة»، يصدق بشأنها المثل القائل: الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده. ويؤكد ميهايلي في التحليل ذاته، أن التفوّق التكنولوجي للدول الغربية يجري إضعافه بواسطة حرب منخفضة الكلفة، وهناك بعض الفاعلين الذين يحاولون الاستفادة منها لتوسيع مجال تأثيرهم أو لمهاجمة الغرب، وهذا ما يتطلب إعادة النظر في التجهيزات وفي كل التصورات المتعلقة بأسلوب وطريقة استعمالها.
ومن الواضح بحسب الكاتب أن التطور السريع لتكنولوجيا المسيرات والصواريخ، أدى إلى إحداث تغييرات عميقة في الحرب كما عرفناها وكما فكرنا فيها منذ أربعة عقود. وتكمن ماهية هذا التحول الذي نتحدث عنه في أن التكنولوجيا العسكرية أصبحت متاحة على نطاق واسع، سواء لدى الدول الفقيرة أو لدى الكيانات التي لا تخضع لسيادة الدول، وباتت الدول التي توصف بأنها ضعيفة تمتلك إمكانات قادرة على إزعاج القوى الكبرى، على عكس ما كان سائداً في القرن العشرين، عندما كانت هذه الإمكانات العسكرية حكراً على القوى التي تمتلك قدرات اقتصادية وصناعية كبرى، وقد أسهمت الثورة الرقمية أيضاً في جعل الكثير من المعارف العسكرية متوفرة لجمهور واسع من المهتمين بالتكنولوجيا الدفاعية.
ويمكن القول إنه وبعد سنوات من الانتصار الساحق للأسلحة ذات النوعية العالية والكلفة المرتفعة، استطاع خيار الأسلحة المعتمدة على الكثرة، أي على الكم وليس الكيف، أن يفرض نفسه في العديد من ساحات المواجهة، نتيجة لأثمانه الزهيدة وقدرته على تحدي الأسلحة ذات التكنولوجيا المعقدة، وقد تجلى ذلك بوضوح في الحرب الإيرانية الإسرائيلية الأخيرة، فقد عجزت أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية المكلفة عن مواجهة الكم الهائل من الصواريخ والمسيرات الإيرانية ذات الكلفة المنخفضة، بل إن بطاريات الدفاع الجوي الأمريكية من طراز «ثاد» كاد مخزونها المتوفر لدى تل أبيب، ينفد دون أن تنجح في اعتراض كل الصواريخ الإيرانية التي ألحقت دماراً هائلاً بالعديد من المدن الإسرائيلية.
وحدث الشيء نفسه مع المسيرات الروسية التي أحرجت منظومة الدفاع الجوي الأمريكية «باتريوت» التي سلمتها واشنطن لأوكرانيا، وبالتالي إذا كان تصنيع المسيّرات يتم في وقت قياسي، فإن قدرة المصانع الغربية على إنتاج أسلحة الدفاع الجوي تتطلب ميزانيات ضخمة ووقتاً أطول. وعلاوة على ما تقدم فإن الخبراء يشيرون إلى أن خصوم الغرب يستفيدون من الفارق بين وتيرة الابتكار وقدرة الأنظمة الدفاعية على التأقلم، الأمر الذي يتيح للعديد من القوى، مثل روسيا وكوريا الشمالية، أن تحقق العديد من الانتصارات الاستراتيجية قبل أن تتمكن القوى الغربية من إعادة تكييف إمكاناتها مع الأوضاع المستجدة. وهذا ما يجعلنا نستنتج أن «الحرب الرخيصة» ستظل تمثل التحدي الأكبر للتكنولوجيا الغربية المتطورة ولمنظوماتها الدفاعية على الأقل خلال العقدين المقبلين.
الحسين الزاوي