عندما تجلس وراء حاسوبك أو تحمل جوالك معتقداً أن ما تنقره على لوحة المفاتيح ملك لك شخصياً، وأنك مستقل وتتمتع بخلوتك وخصوصيتك في اختيار الموضوع الذي تحب أو تريد أن تعرف معلومات عنه، فقد تكون مخطئاً تماماً، ذلك أنك تنطلق من فكرة أن هذه الوسائل الذكية تتمتع بموضوعية وعقلانية بحيث أنك تتحكم بها، لكن الحقيقة أنها تتحكم بك عبر خوارزميات تكون أنت قد أمددتها بها.
“ثورة الإنترنت” لا يتوقع أنها ستقف عند حدود معينة، والهواتف الذكية والحواسيب الرقمية باتت تحدد طريقة حياتك وتفاصيلها من نبض قلبك إلى مراقبة بيتك عن بعد.
ما هي الخوارزميات؟
سميت الخوارزمية بهذا الاسم نسبة إلى العالم أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمي الذي ابتكرها في القرن التاسع الميلادي، وهي تعني التسلسل والاختيار والتكرار.
التسلسل، تكون الخوارزمية عبارة عن مجموعة من التعليمات المتسلسلة، هذه التعليمات قد تكون إما بسيطة أو من النوعين التاليين.
الاختيار، بعض المشكلات لا يمكن حلها بتسلسل بسيط للتعليمات، وقد تحتاج إلى اختبار بعض الشروط وتنظر إلى نتيجة الاختبار، إذا كانت صحيحة تتبع مساراً يحتوي على تعليمات متسلسلة، وإذا كانت خاطئة تتبع مساراً آخر مختلفاً من التعليمات، هذه الطريقة هي ما تسمى اتخاذ القرار أو الاختيار.
التكرار، عند حل بعض المشكلات لا بد من إعادة تسلسل الخطوات نفسها عدداً من المرات، وهذا ما يطلق عليه التكرار، وقد أثبت أنه لا حاجة إلى تركيبات إضافية، واستخدام هذه التركيبات الثلاثة يسهل فهم الخوارزمية واكتشاف الأخطاء الواردة فيها وتغييرها.
وتستخدم الخوارزميات بشكل متزايد لاتخاذ القرارات عنا، أو معنا، ومن دون إدراك ذلك في كثير من الأحيان، فهي بمثابة عقول الحواسيب والهواتف الذكية، وفضاء الإنترنت الواسع، من هنا تأتي فكرة الـ (Updates) أو التحديثات على جميع منصات التواصل الاجتماعي موظفة الخوارزميات في حياتنا اليومية، ولتبسيط الفكرة، فإن الخوارزميات تعمل تماماً كوصفات الطهي، حيث تأخذ الخوارزميات المكونات وتفصل المهمات إلى أجزاء متجانسة، ثم تنفذها بشكل تسلسلي الواحد تلو الآخر، لتعود إليك بطبق شهي تكون أنت ساعدت في اختيار مكوناته.
الخوارزميات وأخلاقيات التعامل
ألم تبحث يوماً عن رحلة سياحية إلى بلد معين فتفاجئك جميع المنصات المشترك فيها بالفنادق وشركات الطيران والأماكن الواجب زيارتها في ذلك البلد؟ قد يبدو الأمر للبعض ممتعاً لأن تلك المنصات تهتم بخياراتك، وتقوم بمهمة البحث عنك، وهذا صحيح، لكن لربما تلك الخوارزميات تبعدك عن المعلومة الصحيحة وتوجهك نحو قرارات اتخذتها هي عنك، لأنه حتى الآن غير مفهوم تماماً كيف تعمل، إذ إضافة إلى تأثير الخوارزميات على منهجية البحث، تقرر بشكل متزايد ما يصلك وما يتم تجاهله من معلومات، بل تقرر ما ينشر وما يحجب، وينطبق هذا على مختلف أنواع نتائج البحث، والدليل على ذلك طريقة عرض محتوى الإعلانات عبر مواقع وسائل التواصل.
هكذا تتحكم الخوارزميات بما نشاهده ونحصل عليه، بحيث تعود إليك المعلومة نفسها مراراً وتكراراً عبر ما يعرف بغرف “صدى الصوت” أو “Echo Chambers”، ما يعني أن المستخدم لا يتلقى إلا ما يوافق هواه، وكأنه يستمع إلى صدى صوته عندما يتكلم الآخرون، معزولاً عن بقية الآراء التي قد تكون مخالفة، أو مختلفة.
ماذا لو كانت تلك الخوارزميات خطأً؟ تطرح كاثي أونيل عالمة البيانات، في كتابها “Weapons of Math Destruction” أمثلة تثير القلق حدثت في الولايات المتحدة منها، فصلت مدارس عامة في واشنطن عام 2010، أكثر من مئتي معلم منهم معلمون مشهود لهم بالكفاءة استناداً إلى درجات في معادلة حسابية قيمت أداءهم، ورفض تقدم رجل للعمل مصاب باضطراب ثنائي القطب في سبعة متاجر كبرى بعد أن خضع لـ”اختبار شخصية”، واستناداً للاختبار تبين أنه يشكل خطراً كبيراً بحسب التصنيف الخوارزمي للاختبار، على رغم أن كل الجوانب الأخرى من سيرته الذاتية تدل على أنه اختيار مثالي، إذاً لا تحقق الخوارزميات العدالة إن طبقت من دون تفكير، لأنها تقوم بالأساس على خيارك، وبما أن كل شخص لديه نزعات تحيزية، ما يؤدي بطبيعة الحال إلى تحيز الخوارزمية بالضرورة.
كيف تعمل غرف “صدى الصوت”؟
منصات التواصل تدار بالأساس من قبل شركات ربحية كموقع “فيسبوك”، وبما أن الربح هو غاية أي شركة، فالسؤال الذي يطرح نفسه، من أين تأتي أرباح منصات التواصل؟ والجواب الطبيعي أنها تأتي أولاً من الإعلانات. وكلما أمضى المستخدم وقتاً أطول على المنصات زاد تفاعله مع الإعلانات، ومن ثم زادت أرباح الشركات المسؤولة عن المنصات، إذاً الهدف هو إبقاؤك “مستمتعاً” ومستعرضاً ما تراه أمامك أطول فترة ممكنة لتحقيق أقصى أرباح من الإعلانات.
تتيح الخوارزميات للمستخدم المادة التي يحبها عبر صورة مشاركات لمستخدمين آخرين أو مقالات أو مواد مرئية أو مسموعة تتفق مع هوى المستخدم، وعادة ما يضع المستخدم علامة “إعجاب” أو “إعادة تغريد” للمحتوى الذي يوافق هواه، ما يدفع المنصات لتوفير محتوى إضافي مشابه يكون صادراً من مستخدمين آخرين متوافقين معه، بالتالي يخفي المحتوى المخالف لإعجاباتهم، هذه الاستراتيجية في التعامل تؤدي مباشرة لخلق ما يعرف بـ”غرف صدى الصوت”، وكلما زاد “هوس” المستخدم بمحتوى المادة، أي عبر مهاجمة الأفكار الأخرى، عبر زيادة التفاعلات من مشاركة محتوى أو التعليق أو إعادة التغريد بشكل متطرف ومبالغ فيه، زاد التفاعل وعدد الإعجابات والمتابعين، ما يستدعي البقاء أكثر على المنصة، وهذا ما يعزز غرف “صدى الصوت” ويوسع الهوة بين المستخدمين المخالفين في الرأي، بحيث إذا ما بحث شخصان عن المعلومة نفسها يحصلان على نتيجتين مختلفتين.
إذاً هي “فقاعة معرفية” وشبكة معلوماتية استبعدت فيها المصادر المهمة عن طريق الحذف، ربما من غير قصد، مما يعني أنه إطار معرفي ضعيف يفتقر إلى اتصال قوي، أما الأعضاء داخلها فهم غير مدركين للمعلومات المهمة والاستدلال.
من ناحية أخرى، فإن “غرف الصدى” هي بناء معرفي تستبعد فيه الأصوات وفقدان مصداقيتها، ولا يعاني فيها الفرد نقصاً في الاتصال، بل يعتمد على التلاعب بالثقة من خلال تشويه سمعة جميع المصادر الخارجية بشكل منهجي، ووفقاً لبحث أجرته جامعة بنسلفانيا، أصبح أعضاء غرف الصدى معتمدين على المصادر داخل الغرفة ومقاومين بشدة لأية مصادر خارجية، وأيضاً بالتوازي فإن هناك تمييزاً مهماً في قوة البنى المعرفية ذات الصلة، ولا تعد الفقاعات المعرفية أيضاً قوية بشكل خاص، حيث إن المعلومات ذات الصلة أهملت فقط، وبذلك فهي تفقد مصداقيتها، بحسب دراسة أجراها أستاذ الدراسات الدينية بجامعة فيرجينيا، شارل ماتويس، 2021.
ما يخفيه الإنترنت
عام 2011 أصدر إيلي باريزيه (The Filter Bubble: What the internet is hiding from you) (فقاعات التصفية: ما يخفيه الإنترنت عنك)، يشرح فيه كيف أن محركات البحث على الإنترنت وخوارزمياتها تخلق موقفاً حيث يحصل المستخدمون بشكل متزايد على معلومات تؤكد معتقداتهم السابقة.
تستخدم خوارزميات البحث كميات كبيرة من المعلومات حول المستخدم للعثور على المعلومات ذات الصلة وتقديمها إليه، حيث يعد سجل البحث والتصفح جزءاً أساساً من المعلومات المستخدمة لتخصيص النتائج التي تحصل عليها عند إجراء عمليات بحث عبر الإنترنت، ويؤدي دمج هذا مع معلومات حول شبكتك الاجتماعية وعادات المشاهدة والجغرافيا إلى رؤية ضيقة بشكل متزايد للمعلومات المتاحة عبر الإنترنت، ويستند إيلي باريزيه في ذلك إلى أن هذا التضييق يخلق فقاعة تصفية غير مرئية للمستخدم، لكن لا يزال لها تأثير هائل في المعلومات المتاحة للفرد.
عند إجراء بحث عبر “غوغل”، يتم استخدام المعلومات المتعلقة بك إضافة إلى مصطلح البحث الخاص بك للعثور على نتائج البحث التي من المرجح أنها تهمك وترتيبها حسب الأولوية، بعد ذلك عند النقر فوق نتائج البحث الأولى (كما يفعل معظم الأشخاص)، فإنك تؤكد مرة أخرى لمحرك البحث أن النتائج كانت بالفعل ذات صلة و/ أو مثيرة للاهتمام، ويؤدي هذا بدوره إلى تقوية عامل التصفية، مما يزيد من احتمالية حصولك على نتائج مماثلة في المستقبل، ومع ذلك ليس فقط سلوكك هو الذي يؤثر في النتائج، بل الاهتمامات والتفضيلات بين الأشخاص في شبكتك الاجتماعية هي أيضاً جزء من الخوارزميات، مما يزيد من احتمالية تلقيك لنتائج البحث التي تنجذب إليها شبكتك الاجتماعية بشكل عام.
في كثير من الحالات، توفر هذه الفلاتر نتائج جيدة وذات صلة، ومع ذلك، فإنها تصبح مشكلة بمجرد أن يحتوي ملفك الشخصي على عناصر تجعل نتائج البحث تنجذب نحو المعلومات الخاطئة ذلك أن المرشحات غير مرئية إلى حد كبير، مما يزيد من المشكلة، ولا يدرك عديد من المستخدمين أن التصفية جارية، وحتى لو كانت كذلك فمن الصعب التحكم في كيفية تطبيق الفلتر حتى لو حذفت سجل البحث الخاص بك، أو النقر فوق الزر “إخفاء النتائج الخاصة” في الجزء العلوي الأيسر من نتائج البحث، فإن تعقيد الخوارزميات وعدم وجود تفسيرات قابلة للاستخدام حول كيفية عمل المرشحات (الفلاتر) بالفعل تجعل من الصعب على المستخدم التحكم.
وعرف باريزيه مفهومه عن فقاعة التصفية بمصطلحات أكثر رسمية على أنها “ذلك النظام البيئي الشخصي للمعلومات الذي يتم توفيره بواسطة هذه الخوارزميات”، ويتم إنشاء سجل التصفح والبحث السابق لمستخدم الإنترنت بمرور الوقت عندما يشيرون إلى اهتمامهم بالموضوعات من خلال “النقر على الروابط وعرض الأصدقاء، ووضع الأفلام في قائمة الانتظار الخاصة بهم، وقراءة القصص الإخبارية”، وما إلى ذلك، ثم تستخدم شركة الإنترنت هذه المعلومات لتوجيه الإعلانات إلى المستخدم، أو لإظهار أنواع معينة من المعلومات بشكل أكثر بروزاً في صفحات نتائج البحث، هذه العملية ليست عشوائية لأنها تعمل في إطار عملية من ثلاث خطوات، حسب باريزيه، الذي يقول، “أولاً، عليك أن تكتشف من هم الأشخاص وماذا يحبون، ثم تزودهم بالمحتوى والخدمات التي تناسبهم على أفضل وجه، ومن ثم يمكنك الضبط للحصول على الشكل المناسب تماماً، الذي يشكل هويتك ووسائطك”.
ووفقاً لإحدى الدراسات في “وول ستريت جورنال”، فإن أفضل 50 موقعاً على الإنترنت، من “CNN” إلى “Yahoo” إلى “MSN”، تثبت ما معدله 64 ملف تعريف ارتباط محملة بالبيانات وإشارات تتبع شخصية لكل منها، ابحث عن كلمة مثل “الاكتئاب” على “Dictionary.com”، ويقوم الموقع بتثبيت ما يصل إلى 223 من ملفات تعريف الارتباط والبرامج الملحقة للتتبع على جهاز الكمبيوتر الخاص بك، حتى تتمكن مواقع الويب الأخرى من استهدافك بمضادات الاكتئاب، شارك بمقال حول الطهي على “ABC News”، وسوف تتم مطاردتك عبر الويب بواسطة إعلانات عن الأواني المغطاة بالتفلون.
مستشارة إعلامية وتواصل إجتماعي