التحولات الكبرى في الاقتصاد، تصاحب الأحداث العظيمة باستمرار التي يمر بها العالم حتى وإن كانت وباءا أو حربا بين دولتين يرغب كل منهم في كسر الأخر، حيث لاشىء ثابت في المعادلة الاقتصادية في هذه الأوقات، فالاجتماع الصباحي لأحد المسئوليين أو لمجلس إدارة شركة يجب أن يناقش أخبار هذه الأحداث وتأثيراتها للتحوط من تداعياتها، أكثر من مناقشة الأمور التقليدية حيث أنه لاحديث مقنع بأن كل شىء على مايرام والأوضاع تحت السيطرة.
ولاشك أن التغيرات الاقتصادية الأخيرة التي صاحبت الأزمة بين معسكر الشرق والغرب، فرضت واقعا جديدا بشكل مباشر على “الشركات الناشئة”، هذا المسمى القديم الجديد، الذي غازل العديد من الأسواق خلال العقد الإخير، وأصبح حديث الحكومات والأجيال الجديدة بأنه المسار الرئيسي للنمو والمرتكز الأساسي للنهوض الاقتصادي، حيث أصبحت الشركات الناشئة أحد اللاعبين البارزين في الاقتصاد العالمي، وأصبح التنافس على ضم الأفكار والشركات بمثابة صفقات مليارية تدفع فيها الدول، لاستقطاب بعضها أوحتي لمنح الجنسية لمؤسسيها، فلاعب الشركات الناشئة قيمته السوقية أعلى كثيرا بل وكثيرا جدا من لاعب كرة القدم !.
وبواقعية القوة الكبيرة التي امتلكتها هذه الشركات، واجهت عاصفة أيضا على نفس المستوى، حركت سفنها إلى مساحات جديدة خلال الفترة القليلة الماضية، وأودت بتغير طريقة تفكير مؤسسي هذه الشركات والحكومات حول تصحيح المسارات التشغيلية والسياسات التي تتبناها ، وأيضا طريقة النظر للقطاعات التي يمكن أن تشكل فرصا بديلة لتباطوء وركود بعض القطاعات الأخرى، وسط رهانات متفائلة بقدرتها على النمو والتكيف مع الظروف العالمية الجديدة بحيويتها الإدارية وطبيعة أعمالها المرنة.
وفي السوق المصرية، تتحقق هذه الأطروحة بقوة، فقطاع الشركات الناشئة في مصر سيطر عليه خلال الفترة الماضية، مراجعات قوية دفعت بشركات للمقدمة على مستوى الأعمال وعقد الصفقات، وخفتت أخرى لعيوب هيكلية وإفراط غير مبرر في التفاؤل الذي يصاحبة تحرك في الاتجاه الخطأ، بينما تقف الحكومة ممثلة في وزارة الاتصالات بشكل قوي وسط هذه التغيرات لقراءة الواقع الجديد والتعامل معه بسياسات وتشريعات مناسبة، ومبادرات أكثر قوة ترى الفرص وتراقب أيضا مايحدث في المنطقة على مستوى المنافسة، وأيضا جذب العديد من الشركات العالمية الكبرى التي توفر مساحة للإبداع والابتكار لأجيال جديدة من الشركات الناشئة في قطاعات تراهن عليها الدولة.
وبمدلول هذه النظرة، نجد القيادة السياسية ممثلة في الرئيس السيسي، وجه في نهاية الأسبوع الماضي في اجتماع موسع ضم الدكتور مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء، والدكتور عمرو طلعت وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، بأولوية توفير كل الدعم اللازم لبناء وتطوير قدرات الشباب المصري، ومساندة الشركات الناشئة وتشجيع توسعها في قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، موجهاً بمواصلة جهود الدولة في تعزيز التحول الرقمي، مع متابعة ومواكبة أحدث التطبيقات التكنولوجية في مجال الذكاء الاصطناعي، الذي تزداد أهميته وقيمته المضافة باطراد على المستوى العالمي.
فإلى أين تتجه بوصلة الشركات الناشئة المصرية خلال الفترة القادمة؟، وما هي أهم القطاعات التي تشهد نموا؟، وما هي القطاعات التي لديها الكثير من الفرص؟
قطاعات تحقق النمو
بنظرة على ما حققته الشركات الناشئة في 2022 تتضح الصورة أكثر حول القطاعات التي تنمو، إذ جمعت الشركات الناشئة في العام الماضي تمويلات بقيمة 517 مليون دولار، وسيطرت مصر على عدد صفقات دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث تجاوزت الصفقات 160 صفقة، وفقاً لتقرير ماجنيت للاستثمار الجريء في مصر
أما عن القطاعات فكانت التكنولوجيا المالية على رأس القطاعات التي حصلت على تمويل، إذ حصل هذا القطاع على 217 مليون دولار تمويلات العام الماضي، بزيادة 18% عن 2021، وكانت أكبر صفقة من نصيب Paymob والتي حصلت على 50 مليون دولار.
ثم جاءت التجارة الإلكترونية في المركز الثاني بالحصول على 148 مليون دولار تمويلات، أما الخدمات اللوجستية والنقل فجاءت في المركز الثالث بالحصول على 62 مليون دولار، ثم في المركز الرابع جاء قطاع تجارة التجزئة بالحصول على 17 مليون دولار، وبعدها التكنولوجيا الصحية التي حصلت على 12 مليون دولار.
أما عن القطاعات التي حصلت على تمويلات هذا العام حتى الآن فنجد استمرار تفوق التكنولوجيا المالية، حيث جمعت شركة (إم.إن.تي-حالا) للقروض متناهية الصغر وخدمات الدفع، تمويلا قدره 400 مليون دولار لترتفع قيمتها إلى أكثر من مليار دولار.
كما حصلت Hollydesk، منصة إدارة النفقات في مصر، على مليون دولار لتمويل ديون المشاريع، وكان قطاع التكنولوجيا الصحية متواجدا أيضا بحصول شركة يداوي على تمويل بقيمة 16 مليون دولار، وفي مجال التسويق أغلقت Gameball منصة إدارة العملاء والتسويق للعلامات التجارية الاستهلاكية، جولة استثمارية (Seed) قدرها 3.5 مليون دولار، وفي قطاع تكنولوجيا الطاقة النظيفة حصلت شركة كرم سولار على تمويل ديون بقيمة 3 ملايين دولار.
هذا بجانب نمو قطاع التجارة الإلكترونية في مصر، إذ كشف تقرير صادر عن شركة GoDaddy، المتخصصة في تمكين رواد الأعمال، عن أكثر ثلاث قطاعات للأعمال من المتوقع أن تحقق أكبر نمو في مصر في 2023 وتتمثل في قطاع المأكولات والمشروبات بنسبة 27%، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات بنسبة 23%، وحلول التجارة الإلكترونية بنسبة 21%.
طبيعة التحديات
المحلل الاقتصادي أحمد معطي تحدث، عن طبيعة التحديات الاقتصادية التي يمر بها العالم وتأثيرها على المشروعات بشكل عام وبشكل خاص على الشركات الناشئة التي تصمم على تنفيذ نفس النهج وعدم تغيير أسلوبها مع التغييرات الجديدة خاصة في سلوك المستهلك الذي تغير مؤخرا تأثرا بالأزمة الأوكرانية واستمرارها، وهذا في العالم كله، ولذلك يجب أن تغير تلك الشركات من مسارها، فهي إما أن يحدث لها سقوط أو تغلق أبوابها، أو تخرج من أسواق معينة، مثلما حدث مع شركة تابي وكان مبررها أن نموذجها لم يستطع أن يتماشى مع التطورات الاقتصادية وأن هناك ثقة في الاقتصاد المصري وأنهم يمكن أن يعودوا مرة أخرى.
ووصف تصريحات “تابي” بالواقعية، حيث أكدت أن المشكلة ليست في الاقتصاد المصري، ولكنها مشكلة يمر بها العالم بالكامل، وهناك نوعيات من المشروعات التي سيكون هناك اتجاه أكبر لها خلال الفترة القادمة، مثل أي مشروع صناعي أو زراعي وربطه بالتكنولوجيا، فيجب التوائم مع فكرة ربط التكنولوجيا بالمشروعات الصناعية والزراعية، بجانب القطاع التجاري الذي يستمر في النمو، بالإضافة إلى المشروعات الناشئة بقطاع الطاقة النظيفة التي سيكون لها تواجدا مهما، فتلك المشروعات هي التي ستنمو بشكل أكبر خلال الفترة القادمة.
وأشار أحمد معطي، إلى أن مايثبت واقعية الطرح الذي نتحدث عنه ، هو توجيه جائحة كورونا البوصلة إلى قطاع الرقمنة والتكنولوجيا الصحية بشكل أكبر خلال فترة انتشارها، ثم تغيرت البوصلة نحو نمو قطاعات التكنولوجيا المالية والتجارة الإلكترونية وغيرها من القطاعات كامتداد طبيعي للنمط الذي أفرزته الجائحة كالعمل والتعليم عن بعد ، وأيضا الحصول على الخدمات الرقمية .
الذكاء الاصطناعي
من جانبه قال طارق رشدي، المستثمر ومؤسس شركة “ui-investments” للاستثمار، أن مجالات مثل الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة والميتافيرس، سيكون فيها توجهات للمستقبل، وتدريجيا سيزيد الاهتمام بها، مشيرا إلي أن هناك صناديق استثمار تتشكل حاليا لتمويل شركات التكنولوجيا العميقة في مصر، ولذلك سيكون هناك تركيز على تلك المجالات الفترة القادمة، وهذا ما نحتاجه.
وأضاف أن هناك نمو متوقع أيضا في القطاعات التي تحل مشاكل حقيقية في المجتمع، مثل التكنولوجيا الزراعية وتكنولوجيا التعليم والخدمات اللوجستية، فهي مجالات تغطي فجوات حقيقية موجودة في المجتمع، وسيكون لها فرص للنمو، والدولة ستركز عليها لأنها أحد المحاور التي تستطيع أن تتعامل بها مع مشاكل المجتمع، وأرى أن الحكومة ترى أهمية الشركات الناشئة، وما تفعله من تحقيق أكثر من نصف مليار دولار استثمارات، وهو رقم ليس قليلا ولكن يمكن أن يزيد، وعلى الأرض هناك توجه لمساندتها والوقوف معها ليزيد الاستثمار في الفترة القادمة.
حول الحوافز التي تحتاجها تلك الشركات من الدولة، نوه طارق رشدي، إلى أنها تحتاج إلى بيئة تشريعية أكثر مرونة لطبيعة عملها، وبدأ بالفعل حركة على الأرض من أجل تعديل تلك البيئة، ونتمنى السرعة من أجل مواكبة النمو الذي يحدث حولنا سواء في الشرق الأوسط أو أفريقيا، فالإسراع في ذلك مهم جدا، وكل ذلك ينعكس على سهولة تأسيس الشركات الناشئة وحل المنازعات أو تغيير النشاط، فكل ذلك حوافز تدفع الشركات الناشئة للأمام.
استمرار نمو التكنولوجيا المالية
أحمد هشام الشريك المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة Nexta قال: إذا تحدثنا عن القطاعات التي ستنمو أو تستمر في النمو سنجد استمرار التكنولوجيا المالية في التواجد بقوة، وستكمل قيادتها لنمو الشركات الناشئة، فهو قطاع مازال في بدايته في مصر، وهناك منتجات كثيرة لم تظهر في السوق من هذا القطاع، والسوق متعطش لها، والذي لن يتأثر بأزمة مثل خروج تابي من السوق المصري، فنحن أكثر من 100 مليون مواطن وسوق كبير.
وأكد على أن قطاع التكنولوجيا المالية، مازال مليء بالفرص ويحتاج إلى مزيد من الشركات، حتى إذا وقع البعض في أخطاء فهي فرصة لنتعلم من أخطاء الآخرين، كما أن الفرصة متاحة لكل قطاعات الشركات الناشئة للعمل خلال الفترة المقبلة.
ولفت حسام أبو الدهب، مستشار التكنولوجيا المالية والشمول المالي، أن من القطاعات التي ستحقق نموا خلال الفترة القادمة القطاع الزراعي، أما قطاع التكنولوجيا المالية فهو يستمر في النمو، ولكنه في حاجة إلى نماذج أعمال جديدة ومختلفة عن الموجود بالسوق، فالشركة التي ستقدم نموذج عمل مختلف ستستطيع تحقيق نمو عالي، أما أي شركة جديدة تحاول أن تقدم خدمات تقليدية موجودة بالسوق ستجد صعوبة كبيرة، وخصوصا في ظل وجود لاعبي كبار مسيطرين في السوق.
وذكر أنه من الصعب، أن تدخل شركة جديدة تقدم خدمات الدفع عبر الهاتف، لأنها خدمات موجودة بالفعل، ولكن يمكن تقديم خدمات الدفع من خلال الساعات الذكية على سبيل المثال، أو تقديم خدمات تأمينية للعاملين بشكل حر Freelancing، بجانب مجال الـ Open Banking، أو الشركات التي تضمن الخدمات المالية ضمن خدماتها مثلما تفعل “أوبر”، فكلها مجالات بها فرص أمام الشركات الناشئة، أما عن فكرة التوجه لتحقيق الربح وليس النمو فيتوقف ذلك على نموذج العمل، فيمكن أن يكون ضمن استراتيجية الشركة أن تحقق النمو بعد فترة، وبعد الحصول على مساحة من السوق، أو إذا كانت الشركة تتخصص في مجال جديد، فيمكن أن تؤخر الربح حتى تستطيع أن تقنع السوق بخدماتها وتبني نفسها.
وفي وقت سابق، شارك رائد الأعمال محمد أبو النجا في جلسة بعنوان “الفرص فين”، حيث أشار إلى أن أي شركة تريد أن تبدأ وتحرق الأموال في السوق فهذا ليس وقته تماما، لأن التوقيت الحالي يتطلب تحقيق الشركات للمكسب، ومن الصعب أن يدفع أي مستثمر أمواله من أجل حرقها في السوق حاليا ولكن يبحث المستثمر عن تحقيق الشركة للمكاسب، ويرى أبو النجا أن هناك فرصة لتكنولوجيا التعليم “E-Learning” ولكن ليس قبل 5 سنوات.
العديد من الفرص
وأشار أبو النجا أن هناك العديد من الفرص في قطاع التجارة الإلكترونية B2B، حيث حصلت الشركات العاملة في هذا المجال على استثمارات كبيرة، وهو سوق ضخم، ولكن يحتاج هذا القطاع إلى من يفهمه ويعرف مشاكله.
وأضاف أبو النجا أن مجال التكنولوجيا المالية أكبر سوق يجذب المستثمرين، وسيظل ترند وقطاع كبير، ولكن مازال حجمه صغيرا في مصر، والسوق يحتاج إلى أفكار جيدة، وأفكار تكنولوجيا مالية مبتكرة.
وأضاف أبو النجا أن المنتجات النسائية فرصتها عالية في السوق، حيث إن القوة الشرائية لها كبيرة، مؤكدا على أهمية سوق الألعاب الإلكترونية، حيث إن السعودية من الممكن أن تكون أكبر دولة في العالم تستثمر في القطاع، ومصر تحتاج إلى إنشاء صندوق خاص بهذا المجال.
وشدد نجاتي على أن الفرص مازالت كبيرة أمام شركات المنتجات المستعملة، في ظل الأزمات الاقتصادية الحالية، بالإضافة إلى الشركات التي تعتمد على ميكنة التعامل في قطاعات الأعمال مثل البيع بالجملة أو تسهيل سلاسل التوريد ضاربًا المثال بشركة مكسب، وجرنتا اللتين توفرا خدمات التكنولوجيا الحديثة لميكنة العمليات اليومية لسوق التجزئة والصيدليات.
التكامل والتعاون
مازالت بيئة الشركات الناشئة في مصر في حاجة إلى التشبيك، وفقا للمهندس ماجد غنيمة، مستشار صندوق دعم المبتكرين وعضو مجلس إدارة iHub، ومستشار الابتكار وريادة الأعمال لوزير التعليم العالي والبحث العلمي، مؤكدا على أن هناك تطورا كبيرا في ملف الشركات الناشئة خلال الفترة الحالية، فمنذ 15 عاما كان ينقصنا أن يكون لدينا لاعبين مختلفين، سواء جامعات أو مراكز شباب أو مراكز ريادة أعمال، بجانب جهات تمويل واستثمار مختلفة، سواء بنوك أو شركات رأس مال مخاطر أو مستثمرين ملائكيين، فكل ذلك كان شبه منعدما، وبالتالي أي رائد أعمال لم يكن يجد كل ذلك، فلا نستطيع أن نقول إننا كان لدينا مجتمع ريادة أعمال في ذلك الوقت، ولكن الآن أستطيع أن أقول إننا لدينا مجتمع ريادة أعمال، ولدينا رواد أعمال في بداية طريقهم، وبعضهم لديه خبرة أكبر، وهناك من نجح ومن فشل، ويستطيعون مشاركة الخبرات مع بعضهم، وأصبح هناك شركات كبيرة مستعدة أن تتشارك أو تستثمر أو تساعد الشركة الناشئة الموجودة، ولدينا جهات دعم كثيرة، سواء دعم عيني أو مادي، من خلال الدعم والرعاية.
أما ما نحتاجه في الفترة القادمة، فيقول غنيمة: لا نحتاج إلى وجود لاعبين جدد، بقدر ما ينقصنا التعاون بين كل تلك الجهات، فللأسف التعاون والتشارك بين اللاعبين الحاليين قليل جدا أمام المطلوب فعله، وكل جهة تريد عمل كل شيء وحدها، وكل فرد يريد أن يظهر في الصورة وحده، وكل شخص لديه نقاط قوة ويضطر إلى تغطية نقاط الضعف حتى لا يتشارك مع أحد، بالرغم من أن نقاط الضعف هي نقاط قوة عند الآخرين، وبالتالي إذا تجمعت كل الجهات مع بعضها وهذا هو المفهوم الأساسي لمجتمع ريادة الأعمال، نستطيع أن نحقق النجاح معا، وهذا ما نحتاج إلى التركيز عليه في الفترة القادمة، من خلال تكوين خلايا عمل أكبر، بحيث تكمّل كل الجهات بعضها ويحققون النجاح مع بعضهم.