المشهد العالمي للشركات الناشئة ليس في أفضل أحواله خلال الفترة الحالية، نتيجة التداعيات الاقتصادية المميتة التي تضرب أروقة القطاعات القوية قبل الضعيفة، ونتيجة ممارسات مالية وفنية سيطرت على معظم الشركات الناشئة في أوقات “جنة الاقتصاد” ونقصد هنا ما قبل كورونا وأيضا ما قبل الصراع في شرق أوروبا، لكن اكتشف مؤخرا مدى عوار النظرية ومدى فشل التنفيذ، حيث تم تقدير قيمة معظم الشركات الناشئة بشكل مبالغ فيه قبل عام 2021 وبالتالي تضخم في التمويل على حساب القيمة، ومخططات توسعية تواجه مشاكل هيكلية.
والمشاكل لا تتمثل في تباطؤ التمويل وفقط، فالتحديات ستكون بالجملة لتشمل تباطؤ في النمو وضعف الإنفاق، وانخفاض التقييم، والتشكك في القدرة على جذب عملاء جدد، فوقت الاقتراب من الهزيمة تكون المنافسة غير شريفة بين الشركات!
والشركات المصرية الناشئة ليست بعيدة بالتأكيد عن هذا المشهد، بل تواجه الحالة نفسها وقد تتعرض لمواقف أكبر خاصة وأن الطموحات لها كانت ومازالت مرتفعة للغاية في ظل رغبة الإرادة السياسية في تشكيل هوية جديدة للاقتصاد المصري يكون في جوهرها الشركات الناشئة وإلهام الشباب على الإبداع، وأيضا المستهدفات المتنامية لوزارة الاتصالات للوصول بنمو الاستثمارات فى الشركات الناشئة المصرية بنهاية العام الجاري إلى 850 مليون دولار مقابل 490 مليونًا في 2021، ونجاحها في جذب استثمارات خلال النصف الأول من 2022 بقيمة 350 مليون دولار.
جولات التمويل
فالشركات الناشئة في مصر، وفقا للعديد من التحليلات، تشهد تباطؤ حاليا في جولات التمويل سواء الشركات التي حظت بجولات تمويل خلال العامين الماضين، أو حتى الشركات الباحثة عن فرصة تمويلية أولى، في ظل التراجع الكبير للتمويلات على مستوى صناديق رأس مال المخاطر والمستثمرون المغامرون خاصة مع سيطرة حالة “عدم الثقة” في المستقبل في ظل الظروف غير الاعتيادية التي تسيطر على حركة الأموال وارتفاع معدلات التضخم وأسعار الفائدة والتطورات الجيوسياسية وارتباك المشهد الاستثماري العالمي بشكل عام، حيث نسمع شهريا فقط عن صفقة او اثنين يمكن تصديرهم في أهم الأخبار.
وتسيطر على أجندة اجتماعات الشركات حاليا عناوين عملية تتمثل في البحث عن اندماجات او استحواذات واعدة، وإعادة التفكير في خطوات المستقبل، خاصة وأن قيم الشركات تواجه انخفاضا حادا بسبب ارتفاع أسعار الفائدة والتطورات الجيوسياسية وتطبيع ظروف التكنولوجيا، في سوق تطبيع مثل هذا يمكن أن تصبح التقييمات المتضخمة مشكلة كبيرة، خاصة للمؤسسين والموظفين والمستثمرين الأوائل.
شكل المستقبل
فكيف يكون شكل المستقبل، وماذا تفعل الشركات الناشئة في السوق المصرية؟ وهل الصورة تحتاج لتغيير كامل أم بعض الرتوش تكفي؟
القطاع عند “نقطة فاصلة” متميزة يجب فيها إعادة تقييم نفسه لاستكمال نجاحاته التي بدأها خلال الفترة الماضية، وفقا للدكتور نزار سامي، استشاري الابتكار وإدارة التكنولوجيا، لافتا إلى أنه بالرغم من التحديات العالمية وانكماش شهية المستثمرين، لكن الشركات المصرية أثبتت نجاحها وتم فيها ضخ الكثير من الأموال خلال الفترات الماضية مما يعزز القطاع في مواجهة التحديات المقبلة على مستوى التمويل، مشيرا إلى أن حجم الأموال التي جرى ضخها في تلك الشركات خلال النصف الأول من العام الجاري تجاوزت الـ220% مقارنة بالعام الماضي.
وأشار إلى أنه كلما ارتفع تقييم الشركة الناشئة في مصر لكن في ظل الظروف العادية، كان ذلك أفضل لجميع أصحاب المصلحة المعنيين، حيث تشير التقييمات العالية إلى النجاح وإمكانات الأعمال التجارية حيث يجذبون عملاء جدد ومواهب جديدة وأيضا يبنون سمعة ويحفزون المؤسسين والمستثمرين على الإيمان بالتقديرات المتفائلة للقيمة الحقيقية للشركة، منوها إلى أن تقييمات الشركات الناشئة في مصر التي حصلت على تمويلات خلال الفترة الماضية ليس مبالغا فيه خاصة وأن أعمال هذه الشركات على الأرض متنامي وأيضا توسعت في العديد من أسواق المنطقة .
ولفت الدكتور نزار سامي، إلى أن دخول صناديق الاستثمار والمستثمرين المغامرين في سوق يشبه السوق المصري يجب أن يعتمد على دراسات جيدة حول الشركات خاصة في مثل هذه الظروف والتحديات العالمية، منوها إلى سعي عدد كبير من المستثمرين للاستثمار في الشركات الناشئة المصرية.
تابع، في عام 2016 تم إطلاق رؤية مصر 2030، والتي وبها تطمح القيادة السياسية بأن يكون الاقتصاد المصري تنافسي وقائم على الابتكار والمعرفة من أجل تحسين حياة المصريين، وهو ماتعززه قوة الشركات الناشئة المصرية والنظام البيئي لعملها .
النظام البيئي للشركات
ووفقًا لتقرير حديث صادر عن “Startup Genome”، أصبح النظام البيئي للشركات الناشئة في مصر “وهو البيئة الاجتماعية والاقتصادية التي تؤثر على ريادة الأعمال المحلية أو الإقليمية” خلال السنوات القليلة الماضية واحدًا من أكثر الأنظمة حيوية في القارة ، مما يوفر إمكانات نمو سريع في المستقبل القريب، حيث سجلت مصر زيادة إجمالية قدرها 60٪ في جولات تمويل رأس المال الجريء على مدى السنوات الخمس الماضية ، وفي عام 2021 ، شهدت زيادة بنسبة 156٪ في إجمالي جولات تمويل رأس المال الاستثماري مقارنة بعام 2020.
ووفقًا للتقرير، كان هناك 562 شركة ناشئة في مجال التكنولوجيا تعمل في جميع أنحاء مصر اعتبارًا من سبتمبر 2021، مما يجعلها رابع أكبر نظام بيئي للشركات الناشئة في القارة، حيث جمعت 318 شركة ناشئة مصرية على الأقل ما يقرب من 800 مليون دولار من التمويل منذ عام 2015.
من جانبه يرى رائد الأعمال محمد أبو النجا، مؤسس شركة (Pie) المصرية المتخصصة في عمليات الاندماج والاستحواذ بين الشركات الناشئة، أن ما يحدث حاليا في عمليات تمويل الشركات الناشئة ليس انكماشا، فالأموال موجودة والصناديق لديها أموال أكثر من أي وقت، مما يشير إلى عدم وجود مشكلة في التمويل، فهناك صندوقان كبيران أغلقا مؤخرا جولات كبيرة، وهناك صناديق الخليج لديها الأموال.
إعادة تسعير الشركات وزيادة الاندماجات
ويشرح الوضع الحالي قائلا: طريقة تسعير الشركات تغيرت، فالفائدة في الولايات المتحدة ارتفعت، والشركات الكبيرة عالميا وفي مصر تأثروا بشكل كبير، فما سيحدث هو أن الشركات العائلية الكبيرة تبدأ تكون من أهم رؤوس الأموال، وتبدأ تخرج من داخلها شركات ناشئة كبيرة، وثانيا الحكومة نفسها ستعقد شراكات مع القطاع الخاص وسيقدمون أشياء بالتكنولوجيا بطريقة مختلفة، وهذا سيكون قطاعا كبيرا جدا، وثالثا الاندماجات، فالشركات أصبح أسعارها أرخص، فبالنسبة للشركات الأكبر سيكون أرخص لها أن تشتري بدلا من أن تؤسس بنفسها، لأنه حدث إعادة تسعير للسوق.
تابع أبو النجا، “في نفس الوقت الشركات الصغيرة تخشى من عدم قدرتها على تجميع الأموال، فيقبلون البيع أسهل بكثير من قبل، فمن قبل كانت الشركات ترفض البيع على أمل جمع الأموال، ولكن الآن يجد المؤسس أنه من الممكن ألا يجمع الاستثمار فيبيع، لافتا إلى أن الشركة الصغيرة تدرك أنها قد لا تستطيع جمع الأموال فتوافق على البيع، والشركة الكبيرة تدرك أنها يمكن أن تشتري الشركة الصغيرة بسعر موزون أفضل من البناء.
وفي أحدث الخطوات لدعم الشركات الناشئة في مصر، استحوذت مجموعة كرييتف دوك، المتخصصة في مجال بناء الشركات الناشئة في أوروبا، رسميًا على شركة فاوندرز لين، لتصبح أكبر شركة مستقلة لبناء الشركات الناشئة في العالم وبموجب هذا الاستحواذ، تم تدشين شركة ” FoundersLane Egypt” لتصبح المسئولة عن عمليات الشركة الضخمة داخل مصر خلال الفترة المقبلة، عبر وجود رائد الأعمال محمد أبو النجا بمنصب رئيس مجلس الإدارة، وأنس رباح بمنصب العضو المنتدب.
من جانبه قال الدكتور عصام الجوهري أستاذ نظم المعلومات والتحول الرقمي، أن الاستثمار في الشركات الناشئة لن يتوقف، ولكن الشركات العادية هي المتأثرة بشكل أكبر بسبب الأوضاع الاقتصادية الحالية، وهي التي تعاني من التضخم، ولكن هناك العديد من الجهات التي تقدم التمويل للشركات الناشئة سواء من الداخل أو الخارج.
مؤسسات التمويل
وأشار إلى أن مؤسسات التمويل لم تفقد شهيتها في تمويل الشركات الناشئة في مصر، ولكن كان هناك مبالغات في تقييم وتسعير الشركات من قبل، ولم يكن هناك تقييم عادل أو حقيقي للشركة الناشئة، نتيجة المضاربة وأسباب أخرى، وما سيحدث في الفترة القادمة هو إعادة تقييم لتلك الشركات ووضع سعر حقيقي لها، ومن ثم يستمر التمويل جنبا إلى جنب عمليات الاستحواذ التي تحدث، وسوف تستمر لفترة، ولها مميزات خاصة بدعم الشركات وتعظيم الإيرادات.
وقدم الدكتور عصام الجوهري، نصائحه للشركات الناشئة في مصر بقوله “يجب العمل على تقديم نموذج عمل مربح، والعمل على استدامة الموارد، وعدم المبالغة في التوسع، والعمل على إعادة الهيكلة والاهتمام بفريق العمل، مؤكدا على ضرورة أن تركز الحكومة على تخريج مجموعة من المطورين المميزين، وتقديم التشريعات الخاصة بالبنية الخاصة لتلك الشركات.
ولفت إلى أن نقص المهارات مشكلة رئيسية، فهناك طلب قوي على مطوري البرمجيات، وربما يكون الأهم من ذلك هو المديرون ذوو الخبرة الذين يمكنهم تحويل الإمكانات إلى أرباح، وبالنسبة للشركات الناشئة، فإن تعدد اللوائح تعوق أنشطتها خاصة فيما يتعلق بالمدفوعات، وهو أمر مهم بالنسبة للمستثمرين، مرجحًا أن تنمو الصناعات المتعلقة بالشركات الناشئة في إفريقيا ومصر حتى إذا كانت السنوات القليلة المقبلة أكثر صعوبة للشركات الناشئة الإفريقية في الحصول على رأس المال.
ونشرت مجلة “الإيكونومست” تقريراً خلال الشهر الحالي يسلط الضوء على الطفرة غير المسبوقة في تمويل الشركات الناشئة في إفريقيا عام 2021، حيث حصلت 604 شركات ناشئة في إفريقيا على نحو 5.2 مليارات دولار -وفقًا للاتحاد الإفريقي للملكية الخاصة ورأس المال الاستثماري (AVCA)- مما يمثل أكثر من إجمالي الاستثمار في السنوات السبع السابقة لعام 2021 مشيرة إلى أنه رغم أن حجم التمويل الذي تلقته الشركات الناشئة في إفريقيا ليس إلا سوى جزء بسيط من 600 مليار دولار التي استثمرتها صناديق رأس المال الاستثماري على مستوى العالم، فإنه يعد علامة على تغيير المواقف تجاه قارة تفتقر إلى رأس المال وتحتاج إلى المزيد من الأعمال.
وأشار رائد الأعمال محمد المصري، الشريك المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة تاكتفول، أن التطورات التي تشهدها الشركات الناشئة على المستوى العالمي وأيضا المحلي ستؤدي إلى إعادة دراسة طرق الإنفاق وتوجهاتها والتي تلائم الأوضاع الحالية ، خاصة وأن الاستثمارات المتعلقة بهذه النوعية من الشركات تعطي الأولية للربحية ومد عمر الشركة ، مشيرا إلى أن التأثير السلبي إذا وجد سيكون على الشركات الناشئة التي حظت بالقوة خلال الفترة الماضية بعكس الشركات الناشئة في مراحلها المبكرة والتي ستتناسب مع الظروف الحالية في مراحل نموها.
زيادة نشاط الاستحواذات
وذكر أن كافة التوقعات والمؤشرات المعنية بريادة الأعمال تتوقع زيادة في نشاط الاندماج والاستحواذ في قطاع الشركات الناشئة نظرا لوضع السيولة المحدود في الفترة الحالية بالنسبة للشركات ، منوها إلى أن الشركات الناشئة في مصر والمنطقة ستعمل خلال الفترة الماضية على زيادة مسارات عملها وخططها للتوسع مع تقليص نسبي لعميات الإنفاق المتعلقة بالتسويق والتوسعات للحفاظ على عملائها وأيضا تحقيقها نموا يعود بعوائد سريعة على حجم السيولة التي تمتلكها .
ونوه محمد المصري إلى أن شركته حققت نجاحا كبيرا في وقت قصير، وهو ما لفت انتباه شركة Dstny، الأوروبية الرائدة في مجال أدوات الاتصالات التجارية، لتستحوذ عليها، ففتحت لها الباب لتقديم حلولها داخل أوروبا وهو النموذج الذي سيتكرر خلال الفترة المقبلة،
وأكد على ضرورة أن تراعي الشركات التحديات التقليدية التي تواجه الشركات الناشئة خاصة في تلك الظروف الاستثنائية التي يمر بها الاقتصاد العالمي ومنها التحديات التي تواجهها الشركات فيما يتعلق بالتوقعات المرتفعة للمستهلكين، والذين يريدون شركة ترد عليهم بسرعة وتمنحهم خدمة جيدة، ويكون هناك نوع من أنواع التعامل الجيد، وهذا يحتاج إلى تربيط كبير بين القنوات المختلفة، وجمع البيانات عن العملاء، من أجل مساعدة الموظفين على التعامل معهم، وميكنة الخدمة نفسها، وهذا يزيد من كفاءة العمل وراحة ومستوى رضاء العميل.
فجوة تكنولوجية تعزز حضور الشركات
من جانب أخر أوضح أحمد محمود، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة البرمجيات المدعومة بالذكاء الاصطناعي DXwand “، أن التباطؤ الاقتصادي العالمي الحالي أدى في كثير من الأسواق إلى تحول نحو الاستثمار في الشركات الناشئة ذات نماذج الأعمال المستدامة التي تملأ فجوة تكنولوجية في السوق، وهو ما يمثل فرصة مهمة لاختراق السوق وهذه إحدى نقاط القوة في النظام البيئي المصري الخاص بالشركات الناشئة.
وأشار إلى أنه رغم الظروف الحالية، فإن الحكومة المصرية تعمل على تعزيز جاذبية البلاد كوجهة استثمارية من خلال بذل جهود كبيرة لدعم الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا “بالإضافة إلى ذلك، هناك تعرف على المواهب والتدريب على نطاق عالمي بين الشركات الناشئة في مصر ، كما أن هناك أيضًا إمكانية أكبر للوصول إلى المواهب حيث بدأت الجامعات في التعاون مع الشركات الناشئة ، ويتم وضع قوانين لحماية الشركات الناشئة.
تابع أحمد محمود، أن عدد المستثمرين النشطين في مصر مرتفع وهو مايعزز الاستثمار المحلي في الشركات الناشئة إلى جانب الاستثمارات العالمية فمن بين 122 مستثمرًا تم تحديدهم حتى الآن ، فإن الغالبية كل عام هي مسرعات دولية مثل Flat6Labs و Y Combinator. ومع ذلك ، يحافظ مشهد الشركات الناشئة في مصر أيضًا على حضور قوي لرأس المال الاستثماري المحلي، مما يؤمن التمويل من شركات مثل ألجبيرا فينشرز و Kepple Africa Ventures و سواري فينشرز.
ووفقا للعديد من التقارير الدولية المتعلقة بتعزيز الأعمال الناشئة المتعلقة بالتكنولوجيا ، فإن الحكومة المصرية أصبحت استباقية عندما يتعلق الأمر بدعم سوق التكنولوجيا المحلية الناشئة،ويتضح هذا الدعم من العديد من المبادرات التي تدعمها الحكومة مثل دليل حماية حقوق الملكية الفكرية للشركات الناشئة ، وصندوق التكنولوجيا المالية للبنك المركزي بقيمة 64 مليون دولار ، وبرامج المنح الدراسية لرواد الأعمال في مجال التكنولوجيا ، وإطلاق Creativa Innovation Hubs بالتعاون مع الجامعات الحكومية ، لدعم الطلاب. والشركات الناشئة للالتقاء والوصول إلى الموارد وتطوير الحلول الرقمية. بفضل الدعم الحكومي في هذا النظام البيئي المتنامي ، تسير مصر على الطريق الصحيح لتصبح واحدة من أكثر النظم البيئية التكنولوجية تقدمًا في إفريقيا.