يشهد العالم بأسره ثورة رقمية حقيقة، حيث باتت استخدامات التكنولوجيا والتقنيات الرقمية تنتشر بشكل متسارع في جميع جوانب الحياة التي نعيشها، حيث أدى هذا الانتشار إلى تحولات جذرية في كيفية التفاعل بين الناس والحياة اليومية وإدارة الأعمال والتواصل، وأدى ذلك إلى إحداث تغييرات هائلة على جميع المناشط الاجتماعية والاقتصادية والحكومية والدفاعية والصحية والتعليمية والترفيهية وغيرها، إلا أن هذه الثورة وجدت نفسها في صراع بين النفوذ والسيطرة، لكونها تعتمد على تقنيات ابتكارية متطورة حديثة ومتسارعة، بحيث لا يمكن فهم أبعادها واستيعاب أهدافها كاملة، إذ شملت توسع استخدامات الشبكة العنكبوتية والأجهزة المحمولة والتطبيقات الذكية وشبكات التواصل الاجتماعية وغيرها من التقنيات، خصوصا تقنيات الذكاء الاصطناعي التي بدأ لظهورها الأثر القوي والدور المهم، بل الخطير في بعض الأحيان، ولذا سيكون محور حديثنا في هذا المقال شرحا لكيفية الموازنة بين تحدي النفوذ والسيطرة مع ضرب بعض الأمثلة المبسطة لذلك.
بشكل عام يمثل النفوذ الدور الذي تقدمه التقنيات الابتكارية الرقمية من خلال مستخدميها سواء كانوا أفرادا أو شركات أو منظمات وغيرها في مناحي الحياة اليومية وتطور المجتمعات، ولاحظنا كيف أن التحول الرقمي أدى إلى تطور عديد من التقنيات في التواصل والإنتاج والتسويق والتجارة الإلكترونية والصحة والتعليم والدفاع وغيرها، لكن هذه الابتكارات لها بعد خفي آخر، وهو جمع البيانات عن الدول والأفراد ومعرفة سلوكيات تلك المجتمعات، وهذا ما يعرف بعلم البيانات، فعلى سبيل المثال، اليوم تستخدم التكنولوجيات الرقمية تقنية تجميع البيانات والذكاء الاصطناعي، لتتبع المشكلات وتشخيصها في مجالات عدة كالزراعة والبيئة، وفي الصحة تساعد التقنيات الابتكارية الرائدة التي يدعمها الذكاء الاصطناعي على إنقاذ الأرواح وتشخيص الأمراض، وفي التعليم أتاحت بيئات التعلم الافتراضي والتعلم عن بعد إمكانية التعليم للجميع، وهذا قد أدى إلى زيادة الإنتاجية وتحسين الجودة وتوفير الوقت والجهد والمال إلى حد كبير من جهة، لكن من جهة أخرى كثير من الدول والشركات التي تمتلك هذه الابتكارات يقوم برصد وتحليل تلك البيانات والمعلومات، خصوصا في مجال الأعمال الدفاعية والأمنية، ما سهل من عمليات الاكتشاف والمراقبة والتتبع ورفع مستوى تفوق بعض الدول وتحكمها في مصير واستقرار بعض الدول النامية والمتخلفة تكنولوجيا.
من الجانب الآخر، تمثل السيطرة الرقمية للدول التي تمتلك الابتكارات الرقمية المتطورة من الوصول إلى المعلومات والبيانات، والتحكم في استخدامها وتوزيعها ومشاركتها داخليا وبشكل آمن مع الاحتفاظ بتلك البيانات، ما يساعدها على التفوق والسيطرة، حيث يمكن أن تكون هذه السيطرة من قبل الحكومات أو الشركات أو الأفراد، من خلال امتلاك وإدارة هذه التقنيات، وتكمن المخاطر في عدة جوانب وممارسات من ذلك على سبيل المثال، الاحتكار الاقتصادي، حيث يكون من خلال سيطرة الشركات الكبرى على البيانات والمعلومات الرقمية، ما يمكنها من أن تتحكم في السوق وتقليل المنافسة، ومن ذلك أيضا زيادة الاعتمادية على التكنولوجيا التي تؤدي إلى فقدان بعض المهارات الأساسية اللازمة للحياة اليومية، مثل التواصل الشخصي والقدرة على العمل اليدوي، كما يمكن أن تؤدي إلى مشكلات صحية ناتجة عن الجلوس لفترات طويلة أمام الشاشات الإلكترونية، وكذلك الاستخدام السلبي للبيانات وانتهاك الخصوصية والتحكم الخطير في مختلف المناشط الحياتية عموما، والشخصية خصوصا، وهنا تكمن الخطورة في خروج بعض هذه التقنيات عن السيطرة البشرية.
وفي الأنظمة الدفاعية تسعى الدول الكبرى إلى امتلاك أفضل التقنيات وتعمل على تطويرها ونرى أن التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي أصبحا الفارق الذي يشكل الأفضلية، ومن الأمثلة على ذلك الطائرات الصغيرة دون طيار، التي أثبتت فاعلية استخدامها في الصراعات العسكرية، حيث طورت أخيرا شركة رايناميتا الألمانية نوعا هجينا من تقنية الطائرات المسيرة، يسمى الدرون الأم، وهو يعد جيلا جديدا يجمع بين مهام الاستطلاع والمراقبة والاكتشاف وحمل القنابل الصغيرة الفتاكة للأهداف القتالية، وتم تطويرها لمرافقة القوات البرية في ميادين القتال ويمكن برمجتها بتقنيات الذكاء الاصطناعي وطيرانها لمدة 12 ساعة لمدى 100 كيلومتر، ويمكن برمجة الدرون الصغيرة والتحكم في سرب من مئات أو آلاف منها دون طيار كوحدة واحدة وتحليقها لمدة عشر دقائق نحو أهدافها، ومثل هذه التقنيات يشكل امتلاكها نوعا من السيطرة والنفوذ معا.
وأخيرا، ظهرت تقنيات “شات جي بي تي” الرقمية التي تتعمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي، وتحدثت عنها في مقالات سابقة وكيف تم تطورها بشكل متسارع وباتت حديث العالم بأسره، وبدأت المخاوف من تأثيرها والتحذير من مخاطرها إذا لم تتم حوكمتها وتنظيم وتقنين طرق استخدامها، حيث تحدث دان روزنسويج الرئيس والمدير التنفيذي لشركة تشيج، وهي أحد المواقع التعليمية الشهيرة، عن مدى تأثر شركته السلبي من جراء استخدام التقنية الرقمية “شات جي بي تي”، وكيف أن ذلك سيؤدي إلى انخفاض أرباح الشركة وإيراداتها، وتحدث عن مخاطر تقنيات الذكاء الاصطناعي البروفيسور جيفري هينتون، وهو يعد أحد العلماء البارزين في مجال الذكاء الاصطناعي، وعمل على تطوير عدد من التقنيات الرائدة في هذا المجال، وأحد المساهمين الرئيسين في تطوير نماذج تقنية التعلم العميق، وشبكات العصب الاصطناعي المستخدمة في تحليل البيانات وتعلم الآلة، وتستخدم حاليا في عديد من التطبيقات الحاسوبية، مثل التعرف على الصوت والصورة وترجمة النصوص والسيارات ذاتية القيادة والتحليل اللغوي الحاسوبي وغير ذلك. الجدير بالذكر، أنه قدم استقالته أخيرا من “جوجل”، معربا عن مخاوفه من استخداماتها الاصطناعية والآثار المترتبة على ذلك.
ولا شك أن التقنيات الرقمية الحديثة توفر فرصا كبيرة ومفيدة للمجتمعات والأفراد عموما، إلا أن المخاطر والمخاوف المصاحبة لهذه التقنيات الرقمية الحديثة تكمن فيما تسببه من أضرار إذا ما تم استغلالها بطرق غير قانونية أو غير أخلاقية، لذا أرى أن التعامل مع ثورة التقنيات الرقمية يتطلب توازنا بين استخدامها والحماية من مخاطرها المحتملة، وذلك من خلال قيام الحكومات بتبني وضع مبادئ وسياسات وإجراءات وقوانين وتشريعات ملزمة، يتم تعديلها وتحديثها بشكل منتظم يتوافق مع التغيرات السريعة في هذا المجال، كذلك إنشاء مراكز بيانات وأبحاث محلية تسهم في تقديم المحتوى المحلي، والاعتماد على ما يسهم في ضمان استخدامها بطرق آمنة ومسؤولة ومفيدة للجميع.
أستاذ وباحث في الهندسة الإلكترونية والأنظمة الدفاعية