الرسالة المفتوحة المنشورة فى 29 مارس الفائت من طرفِ «معهد مستقبل الحياة»، الدّاعية، من باب الاحتياط والأمان، إلى تعليق الأبحاث حول الذكاء الاصطناعى لمدّة ستّة أشهر، جرى التوقيع عليها من آلافٍ عدة من الشخصيات البارزة، من بينها إيلون ماسك. الموقعون الذين تجاوز عددُهم 27500 موقع حتى آخر شهر إبريل الفائت، عبروا كلّهم عن قلقهم من رؤية المُختبرات المُختصّة «محبوسة فى سباقٍ خارجٍ عن السيطرة» من أجل صوغ وتنظيمِ ونشرِ أنظمة أكثر قوّة، لا يمكن لأحدٍ أن يفهمها، أو يتوقعها أو يتحكّم بها، حتى مخترعوها أنفسهم.
لماذا كل هذا الذّعر لدى هذه الشريحة من النُّخبة؟ بالتأكيد، ثمة ضوابط وأنظمة يجب وضعها فى مكانها الصحيح، لكن من قبلِ مَن، خلال استراحة الأشهر الستّة هذه، والتى من المفترض أن تَسمح للبشرية بتقييم المخاطر، وتبيان من يمثل مصلحة البشريّة من عدمها هنا؟، وبما أن مختبرات البحث حول الذكاء الاصطناعى فى الصين، والهند، وروسيا، تُواصل العمل (بالسر طبعا) ، فإنّه لمن غير المعقول أن نأمل بقيام مناقشة عامة عالمية حول هذا الموضوع.
مع ذلك، فإن ما تقدم يشكل تحديات تستحق أن تؤخذ بعَين الاعتبار. يرى المؤرّخ يوفال نوح هرارى ــ وهو أيضا من موقعى الرسالة المفتوحة ــ أنّ النتيجة الأكثر ترجيحا واحتمالا لظهور الذكاء الاصطناعى ستكون الانقسام الجذرى للمجتمعات الإنسانية ــ بشكل يفوق بأهميته ذاك الذى أحدثته الطبقات الاجتماعيّة. بسرعة، ستوحد التقنيات الحيويّة والمعلومات الحسابيّة قواها لإنتاج «أجساد، وأمخاخ أو عقول»، بحيث إن فجوة ستحدث وتتسع «بين الذين يعرفون كيف يصممون الأجساد والعقول، وبين الآخرين الذين لا يعرفون ذلك». فى عالَم كهذا، «سيكتسب الذين سيركبون قطار التقدّم قدرات خارقة على الخلق والتدمير، وسيكون الانقراض مصير الذين يتخلفون عن الركب».
هذا الذعر الذى نتلمسه فى العريضة حول الذكاء الاصطناعى، هو الخوف من رؤية حتى الذين ركبوا «قطار التقدم» غير قادرين على تحديد مَساره. الإقطاعيون، فى حصنهم الرقمى، مرعوبون ومذعورون. على الرغم من ذلك، فإنّ ما يدعون إليه ليس نقاشا عامّا، بل يريدون اتفاقا بين دول التكنولوجيا ومجتمعاتها كى لا تتبدّل مراكز القوى.
يمثِل الصعود اللافت لجبروت الذكاء الاصطناعى، فى حقيقة الأمر، تهديدا خطرا لأولئك الذين يمتلكون القوة أيضا، بمَن فيهم أولئك الذين يصمّمونه ويمتلكونه ويسيطرون عليه ويشكلون جزءا لا يتجزّأ منهم. وهذا الواقع لا يُعلن أقل من نهاية الرأسماليّة كما نعرفها، لأن نظاما قائما على الذكاء الاصطناعى، ويُعيد إنتاج نفسه، ستكون حاجته إلى فاعلين بشريين أقل فأقل. التجارة الحسابية، أو التجارة المؤتمتة، ليستا إلا خطوة أولى فى هذا المعنى. من الحين هذا فصاعدا، لن يكون أمامنا خيار إلّا بين شيوعيّة من نَوع جديد أو الفوضى المُطلقة.
بفضلِ روبوتات دردشة جديدة، ستتمكّن جحافل من البشر الذين يشعرون بالوحدة (أو لا يشعرون بها) من قضاء أمسيات طويلة وهم يناقشون السينما أو الأدب أو الطبخ أو السياسة بشكل عشوائى. باختصار، الذكاء الاصطناعى بالنسبة إلينا، هو مثل ما تمثّله القهوة المنزوعة الكافّيين بالنسبة إلى القهوة الحقيقية: جارٌ لطيف ليس لديه ماض إجرامىّ أو سرّ ليخفيه، وآخر يتناسب مع قالب احتياجاتنا الخاصّة.
بالنسبة إلى راى كورزويل، عالِم المستقبليات الأمريكى، فإن التقدم التكنولوجى، ولكونه بطبيعته سريعا، سيَجعلنا نُواجِه قريبا آلات «روحية» تُظهر، ليس جميع سمات الوعى الذاتى فقط، بل من شأنها أن تتفوق، قبل كل شىء، على الذكاء البشرى. هذه المرحلة «ما بعد الإنسانية» لا يُفترض، على الرغم من ذلك، أن يتمّ الخلط بينها وبين هذا الانشغال الحديث للغاية الذى هو البحث عن الهَيْمنة التكنولوجية المُطلقة على الطبيعة. ذلك أنّ ما نشهده الآن هو انعكاسٌ دياليكتيكى لهذه العمليّة.
العلوم «ما بعد الإنسانية» الراهنة لم تعُد بحثا عن الهيمنة. هى محكومة بعنصر المُفاجأة: ما هى الخصائص الطارئة وغير المتوقَّعة التى ستتمكن نماذج الذكاء الاصطناعى الحالية من الحصول عليها؟ لا أحد يُمكنه الإجابة، وهنا تكمن كل الإثارة (أو التفاهة) الخاصة بالأعمال التجارية.
فى سياق التطوّرات الأخيرة للروبوتات وعِلم الوراثة وتكنولوجيا النانو، والحياة الاصطناعية والذكاء الاصطناعى، استشفَّ الفيلسوفُ والمهندسُ الفرنسىّ جان بيار دوبوى، انعكاسا غريبا للغطرسة البشرية تُعزِّزها التكنولوجيا: «كيف نُفسّر أن العلوم التقنية أصبحت نشاطا محفوفا بالمخاطر، إلى حد أنها، وفقا لبعض العُلماء البارزين، أصبحت تشكّل اليوم التهديد الرئيس لبقاء البشريّة؟ يُجيب الفلاسفة عن هذا السؤال بالقول إنّ حُلم ديكارت ــ أن نغدو أسياد الطبيعة ومالِكيها ــ لم يُصِب ولم يتحقَّق بحسب المُرتجى. سيكون من الملح العودة إلى «ضبط السيطرة». فهُم لا يرون أن العلوم التقنية التى تلوح فى الأُفق، من خلال التقاء جميع التخصّصات وتقاربها، تهدف تحديدا إلى عدم السيطرة».
البشرية تصوغ قوتها الخارقة الخاص أو شيطانها الخاص. والنتيجة تبقى غير قابلة للتنبؤ بها، لكنّ هناك شيئا مؤكدا. إذا ظهرت حقيقة جماعية ذات يوم يمكننا اعتبارها «ما بعد إنسانية»، فإن طريقتنا فى رؤية العالَم سوف تفقد دعاماتها الوجودية الثلاث: الإنسانية، الطبيعة، السمو.
هويتنا ككائنات بشرية لا يمكنها أن توجد إلا وفق طبيعة لا يمكن اختراقها. لكن فى حال أصبحت الحياة نفسها شيئا قابلا للتلاعب به بشكل كامل من خلال التكنولوجيا، فلن يكون لديها أى شىء «طبيعى» بعد الآن.
ثمّة ما يدعو للخوف من ألا تكون الرؤى التكنولوجية لعالم ما بعد الإنسان سوى أوهام مؤدلجة تخفى وتستر الهاوية التى تتربص بنا.
يكفى القول إنه وللتأكد حقّا من أن الإنسان، وفى مستقبل غير بعيد، لن يصبح غير ضرورى أو زائدا عن الحاجة، وأن وجوده لن يكون عقيما، لن تكون الأشهر الستة كافية.
فيلسوف وناقد ثقافي سلوفيني وأستاذ في كلية الدراسات العليا الأوروبية