بدأت التجارة الإلكترونية في أوائل الألفينات، وكان نمط الشراء حينها يعتمد على تقديم الطلب وانتظار وصوله خلال عدة أيام. ومع ظهور جائحة كورونا في أواخر عام 2019، تغيّر هذا النموذج جذريًا، وبرزت التجارة السريعة كحل حيوي يلبي احتياجات المستهلك الجديدة، خاصةً فيما يتعلق بالسرعة والراحة. ومنذ ذلك الحين، شهد هذا القطاع نموًا ملحوظًا على مستوى العالم، حيث يُقدَّر أن حجم سوق التجارة السريعة عالميًا بلغ نحو 170.8 مليار دولار أميركي في عام 2024، مع توقعات بمواصلة هذا النمو في ظل الطلب المتزايد، وتسارع التحول الرقمي، وتغيّر أنماط الاستهلاك المعتمدة على السرعة والتجربة الفورية.
في الأسواق الأكثر تقدمًا في آسيا، مثل الصين يُقدّر عدد المعاملات اليومية في التجارة السريعة بأكثر من ثلاثين مليون عملية في اليوم، مما يعكس مدى اعتماد المستهلكين على هذه الخدمة. أما في السوق المصري، فعلى الرغم من كونه لا يزال في مرحلة مبكرة من النمو، فإن المؤشرات إيجابية للغاية وهو ما يعكس اتساع قاعدة المستخدمين من خلال استقطاب عملاء جدد. بالإضافة إلى تحسين معدلات الاحتفاظ بالعملاء، ويعكس هذا التوسع المتواصل أن السوق المحلي يسير في مسار مشابه لما حدث في الصين، خاصة في ظل وجود تركيبة سكانية شابة واعية بالتكنولوجيا، تشكل بيئة خصبة لهذا النمو.
من حيث اقتصاديات الوحدة، أي مدى صحة واستدامة النموذج المالي والتشغيلي للقطاع، تشير المؤشرات الحالية إلى تقدم حقيقي في السوق المصري. فقد تحسنت استجابة العملاء بشكل كبير، وتطورت المؤشرات المالية، مما يؤكد أن السوق يسير بخطى ثابتة نحو مرحلة النضج التجاري.
في السنوات الخمس القادمة، من المتوقع أن يتزايد الطلب بوتيرة أسرع، مع ارتفاع مستمر في توقعات العملاء. فقد أصبح هؤلاء يعتمدون بشكل أكبر على هذه الخدمات، ويتطلعون إلى تنوع أوسع في المنتجات، وأسعار أكثر تنافسية، وسرعة أعلى في التوصيل. وعلى عكس ما كان عليه الوضع في عام ٢٠٢٠، أصبح العميل الآن يتوقع تجربة متكاملة وسلسة، لا سيما في ظل اتساع قاعدة المستخدمين من الفئات العمرية الأصغر، التي تقل أعمارها عن خمس وعشرين سنة، والتي تتصف بقدرتها العالية على التعامل مع التكنولوجيا وانخراطها في البيئة الرقمية.
قبل انتشار التجارة السريعة، كان المستهلكون يعتمدون بشكل أساسي على التسوّق من الهايبر ماركت والسوبر ماركت لتلبية احتياجاتهم اليومية. لكن مع تطوّر هذا القطاع في مصر، تغيّرت سلوكيات الشراء بشكل جذري. فقد أصبحت هذه المنصات الرقمية وسيلة فعالة لتمكين المصنّعين والموردين من الوصول المباشر والسريع إلى المستهلك، وفتحت آفاقًا جديدة للمشروعات الصغيرة والمتوسطة لدخول السوق الرقمي والمنافسة فيه، بفضل بنية تكنولوجية متطورة توفّر حلولًا جاهزة للإدارة والتوصيل.
ورغم هذا النمو، يواجه هذا القطاع تحديات حقيقية. فهو قطاع مليء بالتفاصيل ، نتيجة لارتفاع توقعات العملاء باستمرار، مما يضع ضغوطًا كبيرة على البنية التحتية وسلاسل الإمداد. فعلى سبيل المثال، صغر حجم المساحات التشغيلية المخصصة داخل المدن – والتي تعرف بالمتاجر السحابية – يزيد من تعقيد العمليات اللوجستية، ويستلزم وجود إدارة دقيقة للمخزون، تعتمد على التنبؤ بالطلب في الزمن الفعلي. كما أن سلاسل الإمداد أصبحت أكثر تشعّبًا، وتحتاج إلى تنسيق مرن وسريع لتلبية الاحتياجات.
من التحديات الكبرى كذلك، الجوانب المالية، إذ أن تحقيق الربحية في هذا القطاع يُعدّ مهمة صعبة، نظرًا لضيق هامش الربح وارتفاع تكاليف التشغيل. ويكمن الحل في تحسين الكفاءة التشغيلية، أي قدرة الشركات على تقديم خدمات عالية الجودة بأقل تكلفة ممكنة، إلى جانب رفع القيمة التي يحققها العميل على المدى الطويل، من خلال تخصيص الخدمة لتناسب سلوك وتفضيلات كل عميل.
وفي هذا السياق، في غضون الخمس سنوات المقبلة، سيلعب الذكاء الاصطناعي دورًا محوريًا، إذ سيسهم في تعزيز الكفاءة بشكل كبير عبر تحسين دقة التوقعات المتعلقة بالطلب وتخطيط مواقع المتاجر السحابية. كما سيمكننا من تقديم توصيات مخصصة لكل مستخدم بناءً على سلوكه الشرائي. في المستقبل القريب، سيتمكن المستخدمون من التفاعل مع مساعد رقمي ذكي لا يقدم لهم أفضل الخيارات بناءً على احتياجاتهم فحسب، بل سيساعدهم أيضاً في مقارنة الأسعار بين مختلف التطبيقات الأخرى. وهكذا، ستتجاوز تجربة العميل مجرد واجهة التطبيق لتصبح خدمة شخصية متكاملة تتفاعل معه في كل لحظة، معتمدة بشكل أكبر على التجربة الفعلية التي يقدمها الذكاء الاصطناعي.
ومن ثم، بات من الضروري أن تركز الشركات العاملة في هذا القطاع على جودة الخدمة وتجربة المستخدم بشكل متكامل، بدءًا من التصفح والطلب وحتى لحظة الاستلام، لأن التميز في هذه التجربة هو ما سيضمن ولاء العملاء، ويعزّز فرص النمو المستدام في المستقبل.
تحليل كتبه: محمد سكينة
مدير عام طلبات مارت مصر