أصبحت الساحة الرقمية في الفترة الأخيرة، أرض خصبة للنصب على المواطنين بالكثير من الأشكال، في ظل تدشين عشرات المنصات الغير شرعية التي تخاطب أحلام البسطاء بالثراء السريع والفوائد المجزية، في فيلم مكرر لا يخلو من مشاهد تثير الحيرة وتدعو للتساؤل عن أسباب تكرار وقوع المواطنين في هذه الفخوخ.
وأحدث الحالات منصة FBC للاستثمار على الإنترنت كما وصفت نفسها، والتي برزت كنموذج صارخ لعلميات الاحتيال المالي في عدة دول عربية منها مصر والأردن، حيث استهدفت المئات من المواطنين متعهدة بعوائد مغرية مقابل استثماراتهم، وبدأت المنصة بتسجيل مستخدمين جدد بمبلغ 720 جنيهًا مصريا مما جذب العديد من الباحثين عن فرصة لتحقيق دخل سريع دون إدراك المخاطر المحتملة التي قد تواجههم.
ومع الوقت تحولت الوعود البراقة إلى كابوس مزعج، حيث تم فرض قيود صارمة على عمليات السحب، مما أثار قلق المستثمرين، أعقبها غلق المنصة بشكل كامل، وتقدم عدد من الضحايا ببلاغات رسمية مما أدي إلى فتح تحقيقات من قبل الجهات الأمنية في مصر، وتُعد هذه الحادثة درسًا قاسيًا بضرورة التحقق من مصداقية المنصات الاستثمارية قبل اتخاذ أي قرارات مالية.
واعتمدت منصة FBC على استراتيجية معروفة في عالم الاحتيال تُسمى “الاحتيال الهرمي”، حيث يتم دفع أرباح المستثمرين القدامى من أموال المستثمرين الجدد، حيث بدأت المنصة في البداية بدفع أرباح منتظمة مما جعل المستثمرين يثقون بها ويضحون بمزيدًا من الأموال، ومع تزايد عدد المستخدمين بدأت المنصة في تغيير سياساتها حيث فرضت قيودًا على عمليات السحب وبدأت تتلاعب بشروط الاستثمار.
وفي فبراير الجاري، تفاجأ المستخدمون بإغلاق مفاجئ للمنصة، اختفت جميع الأموال التي استثمرها المستخدمون، واختفى معها الحلم الذي وعدت به FBC، ادعت المنصة أنها تعرضت لهجوم إلكتروني كبير تسبب في خسارة مليارات الدولارات، ولكن تبين لاحقًا أن هذه الادعاءات كانت مجرد حيلة لتهريب الأموال وترك الضحايا في حالة من الذعر واليأس.
ووفق تقارير، فإن مسؤول الشركة في مصر أقام عشاء عمل لضحاياهم، وحفلا صغيرا في منطقة كورنيش إمبابة تحديدا في قاعة دار الياسمين، وذلك قبل أيام من إغلاق التطبيق والنصب على الضحايا، وقد تحدث في الاحتفالية مطالبا بزيادة عدد الأفراد في المنصة، وشدد على ضرورة جلب المزيد من الزبائن، مع وعود بزيادة أرباحهم بنسبة كبيرة، كما حث المتواجدين في الحفل على توسعة نشاط المنصة وجلب جميع أقاربهم وأصدقائهم.
حادث FBC ليس الأول.. فهل يكون الأخير؟!
دون شك، فإن حادثة منصة FBC ليست الأولى من نوعها في مصر. فقد شهدت البلاد على مر السنين العديد من عمليات الاحتيال التي استهدفت طموحات المواطنين بوعدهم بتحقيق أرباح خيالية في وقت قصير.
من أبرز هذه الحوادث قضية “الريان” في ثمانينيات القرن الماضي، حيث جُذِبَ الآلاف بوعدهم بعوائد مالية ضخمة من خلال ما عُرف آنذاك بـ “شركات توظيف الأموال”، وانتهت القصة بخسارة الكثيرين لمُدَّخَراتهم وتعرضهم لصدمات مالية ونفسية كبيرة.
ومنذ فترة ليست بالطويلة، مني المجتمع المصري بالعديد من شركات “الاحتيال الهرمي” أو “الاحتيال الشبكي”، التي تتخذ من نشاط التسويق الشبكي ستارا وراء نهب الأموال، مثل شركة “اشنيل” Xianel التي افتتحت مقرا لها في مصر في منتصف الألفينيات قبل القبض على القائمين عليها.
وحديثا، هناك حادث مشابه تماما لاحتيال منصة FBC، وهو منصة “هوج بول” (Hoogpool) للاستثمار والأرباح. ففي مارس من عام 2023، استيقظ المصريون على حادث الاحتيال ونهب أموالهم، بعدما تم إغلاق منصة “هوج بول”، والتي وصل عدد المشتركين المصريين فيها إلى 600 ألف مشترك، وادعت تأجير عدد من الماكينات والآلات الخاصة بتعدين بيتكوين، وعرضت على المستخدمين الاستثمار في مثل هذه الماكينات مع عدد من الخيارات للأرباح حيث توفر خيارات تبدأ من مبلغ 10 دولارات إلى 50 دولارا، مع فوائد ربحية تبدأ من 250 جنيها مصريا في اليوم وحتى 300 جنيه.
تتكرر هذه السيناريوهات بسبب عدة عوامل، منها الرغبة الملحة لدى الكثيرين في تحسين أوضاعهم المالية بسرعة، مع نقص الوعي المالي والاستثماري الذي يجعلهم فريسة سهلة للمحتالين.
تستغل هذه الجهات غير الشرعية التقنيات الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي للوصول إلى أكبر عدد ممكن من الضحايا، مستخدمة أساليب تسويقية مُغرية وحملات دعائية مضللة.
أوجه الشبه في عمليات الاحتيال
كما يقول المثل الشعبي: “طمعنجى بنى له بيت.. فلسنجى سكن له فيه”، تقوم هذه المنصات على تقديم وعود براقة بعوائد مالية مرتفعة تفوق المعدلات الطبيعية للسوق، مع ضمانات زائفة بعدم وجود مخاطر، كما تشجع المشاركين على جلب أقاربهم وأصدقائهم، مما يخلق جوًا من الثقة الزائفة ويُوسِّع دائرة الضحايا، وبذلك يشتعل الطمع والرغبة في الثراء السهل والسريع في نفوس الضحايا.
وعبر البدايات الموثوقة، وتقديم أرباح حقيقية في البداية لتعزيز المصداقية، تحصد هذه المنصات شعبية كبيرة، قبل الاحتيال على المستثمرين فيما بعد.
احتيال عالمي ضارب في جذور التاريخ
لا يجب الاعتقاد بأن هذا النوع من الاحتيال موجود في مصر فقط، فالحقيقة هو نوع من الاحتيال العالمي الضارب في جذور التاريخ، ويعد تشارلز بونزي (1882-1949) هو مبتكر هذا النوع من الاحتيال في عشرينيات القرن العشرين، حيث وعد المستثمرين بعوائد ضخمة من خلال تجارة كوبونات البريد الدولية.
لقد ابتكر بونزي الاحتيال المالي الذي يعتمد على جذب المستثمرين من خلال وعود بعوائد مالية كبيرة ومضمونة في فترة زمنية قصيرة. يعمل المخطط عن طريق استخدام أموال المستثمرين الجدد لدفع أرباح للمستثمرين القدامى، بدلاً من تحقيق أرباح حقيقية من استثمارات فعلية.
واعتمد بونزي على مخطط، عرف فيما بعد باسمه “مخطط بونزي”، حيث يعد المحتال المستثمرين بعوائد عالية وسريعة، غالبًا ما تكون غير واقعية، لجذبهم إلى الاستثمار، ويتم استخدام أموال المستثمرين الجدد لدفع ما يبدو أنه أرباح للمستثمرين القدامى، مما يعطي انطباعًا بأن الاستثمار ناجح.
ولكي يستمر المخطط، يجب أن يستمر تدفق المستثمرين الجدد، حيث يتم استخدام أموالهم لدفع “الأرباح” للآخرين، وعندما يتوقف تدفق المستثمرين الجدد أو عندما يطلب عدد كبير من المستثمرين سحب أموالهم، ينهار المخطط، ويخسر معظم المستثمرين أموالهم.
ويعتمد نجاح مخطط بونزي، وعمليات الاحتيال الشبيهة به حتى اليوم، على بناء ثقة المستثمرين من خلال دفع “أرباح” في البداية، وعبر تأجيج الجشع، ينجذب الناس إلى العوائد الكبيرة التي تبدو مضمونة.
ومخططات بونزي، كما عمليات الاحتيال الحالية، محكوم عليها بالانهيار في النهاية، لأنها لا تعتمد على أي نشاط تجاري أو استثماري حقيقي. بمجرد انخفاض تدفق الأموال الجديدة، ينهار المخطط، ويخسر معظم المشاركين أموالهم.
كيف نحمي أنفسنا من هذا الفخ؟
إن الموقف القانوني السليم لمثل هذه المنصات هو أول خطوات التأكد من جديتها، وعملها في ظل القانون المصري، ويجب التأكد من أن أي منصة استثمارية حاصلة على التراخيص اللازمة من الجهات الرقابية المختصة مثل هيئة الرقابة المالية، فالدولة في هذه الحالة تعد ضامنا لأموال المستثمرين وحامية لها.
ولا ننكر أيضا أن قطاع كبير من المصريين يفتقد للوعي المالي، وعلى المتخصصين المبادرة بتعزيز المعرفة بأساسيات الاستثمار والمخاطر المرتبطة به، والابتعاد عن العروض التي تبدو “أفضل من أن تكون حقيقية”.
وقبل اتخاذ أي قرار استثماري، يُفضَّل استشارة مختصين ماليين معتمدين، والتحلي بالحذر تجاه أي قرار بضخ الأموال في أي مشروع عموما، فالعروض التي تطلب مبالغ أوليَّة صغيرة مع وعود بعوائد كبيرة، غالبًا ما تكون مصيدة لجذب الضحايا.
ويلعب الإعلام دورًا حاسمًا في نشر الوعي حول أساليب الاحتيال الحديثة وتنبيه المواطنين إلى المخاطر المحتملة، وعلى القوانين والعقوبات التكيف بسرعة لاحتواء ممارسي الاحتيال المالي، وتوفير آليات سهلة للإبلاغ عن أي نشاط مشبوه.
مع تطور التكنولوجيا وانتشار الإنترنت، تتغير أساليب الاحتيال وتصبح أكثر تعقيدًا، مما يستلزم منا جميعًا التحلي باليقظة والحرص. إن حماية أموالنا ومستقبلنا المالي تبدأ من وعينا ومعرفتنا، فلا ندع الطموح يعمينا عن الواقع.
وفي ضوء ذلك، قد نتساءل: كيف يمكن تعزيز دور المؤسسات التعليمية في نشر الثقافة المالية بين الشباب؟ وما هي الخطوات التي يمكن أن تتخذها الجهات المختصة لتطوير آليات رقابية أكثر فعالية في عصر الرقمنة؟
التفكير في هذه الأسئلة والعمل على إيجاد إجابات لها سيُسهم بلا شك في بناء مجتمع أكثر وعيًا ومناعة أمام مثل هذا النوع من الاحتيال المبتكر.