يشهد العالم أزمة عالمية، من المؤكد أنها سوف تؤثر على جميع مناحي الحياة –إن لم تكن قد بدأت تؤثر بالفعل- لو استمرت لفترات طويلة، وتتمثل هذه الأزمة في نقص الإنتاج من أشباه الموصلات، المعروفة بالـ Semi-conductors، والتي تشمل الرقائق الإلكترونية.
ومن المعروف أن هذه الرقائق، أو ما يطلق عليها الدوائر المتكاملة Integrated Circuits (ICs) تدخل في صناعة كافة اللوحات الإلكترونية لأي منتج إلكتروني. والأمثلة عديدة، حيث تدخل هذه اللوحات بتصميماتها المختلفة في صناعات متعددة، مثل صناعة السيارات والأجهزة المنزلية والهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر.
وتعتبر صناعة السيارات أكثر الصناعات تضرراً من هذه الأزمة، حيث تأثرت إلى الحد الذي اضطرت معه أكبر شركات إنتاج السيارات، مثل فورد وجنرال موتورز ونيسان وهوندا وميتسوبيشي وفولكسفاجن، إلى إغلاق بعض مصانعها وخفض إنتاج بعض خطوطها، مع وقف إنتاج بعض الطرازات.
وبحسب تقرير صادر عن شركة KMPG، من المتوقع أن يحدث فقد في الإيرادات في هذه الصناعة بمقدار 100 مليار دولار في عام 2021.
ووفقاً لنفس التقرير، فإنه من المتوقع أيضاً أن يصل إجمالي الفقد المتوقع في الإيرادات في مختلف الصناعات إلى 125 مليار دولار في نهاية نفس العام، حيث تسببت هذه الأزمة أيضاً في ارتفاع أسعار هذه المكونات الإلكترونية، وكذلك زيادة فترات توريدها إلى مدد تتراوح من 6 إلى 12 شهرا، بدلاً من 3 أشهر على أقصى تقدير.
بدأت هذه الأزمة مع ظهور الوباء العالمي “فيروس كورونا المستجد كوفيد-19″، حيث تسببت في توقف الاقتصاد في بداية الأزمة، وارتفاع معدلات البطالة، وانخفاض الطلب على السلع والخدمات.
ومع تعليمات البقاء في المنازل والعمل عن بعد، تسبب الوباء العالمي في زيادة الطلب بصورة غير متوقعة على أشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية، وذلك لاستخدامها في أجهزة الكمبيوتر والخوادم والتلفزيونات الذكية والهواتف المحمولة، سواءً لاحتياجات العمل أو للشراء والتسوق عبر الإنترنت أو لخدمات البث والترفيه بالمنازل أيضاً، حيث زادت شحنات الخوادم –على سبيل المثال- بنسبة 18,4% في الربع الثاني من ذلك العام.
تسببت هذه المطالب غير المتوقعة في خلق أزمة في الشركات المصنعة لأشباه الموصلات، والتي كانت بالفعل محملة بمطالب متزايدة نتيجة انتشار البنية التحتية للجيل الخامس 5G، وزيادة استخدام الذكاء الاصطناعي AI، والنمو في المركبات الكهربائية EV، وأجهزة استشعار إنترنت الأشياء (IoT).
وبالتالي، فقد قفزت مبيعات أشباه الموصلات العالمية إلى حوالي 440 مليار دولار في عام 2020، بزيادة قدرها 6,5%، مقارنة بإجمالي حوالي 412 مليار دولار في عام 2019، ومن المتوقع أن تتجاوز 500 مليار دولار في عام 2021 (وفقاً لما أعلنته رابطة صناعة أشباه الموصلات SIA).
وتعتبر شركة TSMC التايوانية أكبر شركة لتصنيع الدوائر المتكاملة في العالم، وهي الشركة الرائدة في مجال هذه التكنولوجيا، ومورد رئيس لشركات عالمية، مثل أبل وإنتل، كما تتحكم في أكثر من نصف هذا السوق.
وأعلنت الشركة التايوانية، في منتصف عام 2020، اعتزامها إنشاء مصنع صغير في ولاية أريزونا الأمريكية لتصنيع أشباه الموصلات، بتكلفة 12 مليار دولار تقريبا، والمخطط أن يبدأ إنتاجه في 2024، كما أعلنت أغلب الشركات القائمة حالياً في هذا المجال عن عزمها إقامة مصانع إضافية لها لحل هذه الأزمة.
لكن، على الرغم من خطط التوسع المتسارعة في السعة من قبل صانعي الرقائق -وحتى مع الضغط السياسي المتزايد لبناء الإمدادات المحلية في أوروبا والولايات المتحدة– فإنه لا توجد حلول سريعة نظرًا للوقت المستغرق لإقامة مثل هذه المصانع. وقد أعلن بالفعل بات جيلسنجر، الرئيس التنفيذي لشركة إنتل، في شهر يوليو من العام الجاري، أنه يتوقع أن تستغرق هذه الأزمة من عام إلى عامين قبل أن تعود الإمدادات إلى وضعها الطبيعي.
الجدير بالذكر وجود محاولات سابقة لإنشاء مصنع لتصنيع مثل هذه المكونات محلياً، حيث تمت عدة زيارات لألمانيا واليابان وماليزيا لدراسة هذا الموضوع، وذلك في أوائل الثمانينات، ثم في النصف الثاني من التسعينات، حيث تم تقديم التقارير اللازمة بنتائج هذه الزيارات إلى الجهات المختصة، ولكن لم تسفر هذه المحاولات عن نتيجة إيجابية في هذا الاتجاه.
قد يكون ذلك لارتفاع تكاليف إنشاء مثل هذه المنشآت أو لعدم جدواها اقتصادياً أو لضرورة تحديثها دورياً نظراً لسرعة التقدم التكنولوجي في هذه الصناعة، ما يمثل عبئا ماليا إضافيا.
المؤكد، وما أثبتته هذه الأزمة، أن وجود مثل هذه المصانع محلياً يعتبر مسألة أمن قومي، يجب دراستها جيداً والسعي لها، لكي يمتلك الوطن مقدراته في مجالي التصميم والتصنيع الإلكتروني، والذي يعتبر عماد التقدم التكنولوجي في الثورة التكنولوجية الحالية.
تحليل كتبته: د. عايدة الصبان
خبير صناعة الإلكترونيات ومحاضر زائر في الجامعة البريطانية بالقاهرة- الرئيس السابق لمصنع الإلكترونيات التابع للهيئة العربية للتصنيع