تمثل صناعة التعهيد رهانا استراتيجيا للدولة المصرية والقيادة السياسية في عملية التحول الرقمي الشامل ومضاعفة الصادرات الرقمية خلال السنوات المقبلة، بمعطيات ونتائج واعدة ومؤشرات نمو واضحة على كافة المستويات، حيث تخطط الحكومة ممثلة في وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات تحقيق صادرات رقمية من صناعة التعهيد بقيمة 13 مليار دولار بحلول 2030، بمضاعفة 2.7 مرة ، كما تستهدف الحكومة 8 مليار دولار لصادرات صناعة التعهيد خلال العام المالي 2023/2024، مقابل 4.9 مليار دولار في 2022/2023.
وتمكنت وزارة الاتصالات خلال السنوات القليلة الماضية، من جذب العديد من الشركات العاملة في المجال وتعزيز السوق المصري كوجهة مفضلة لشركات خدمات التعهيد العالمية، وأخرها توقيع هيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات مذكرة تفاهم مع شركة فاوندفر العالمية، والتي تتضمن استثمارات تصل إلى 65 مليون يورو خلال السنوات الأربع المقبلة والتي ستعزز بشكل مباشر مكانة مصر كوجهة رئيسية لخدمات التعهيد.
ويصل إجمالي عدد شركات التعهيد في مصر حوالي 175 شركة أقامت أكثر من 200 مركز لتقديم خدمات التعهيد، وتوظف من خلالها أكثر من 145 ألف متخصص، ووفقا لبيانات معظم هذه الشركات فإنها تستهدف توسعات جديدة، مما يعكس الثقة المتزايدة في قدرات السوق المصري، حيث احتلت مصر المرتبة الثانية في مؤشر كيرني لمواقع الخدمات العالمية لعام 2023 على مستوى منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا بعد الإمارات، في حين احتلت مصر المرتبة 23 عالميا، ويتم الاختيار على أساس حجم المدخلات وأنشطة الخدمات عن بعد والمبادرات الحكومية لتنمية قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات.
ووفقا للخبراء، فإن صناعة التعهيد قادرة على بناء نموذج مستدام لنمو الصادرات الرقمية في مصر وتحويلها لمقصد للاستثمارات الرقمية على مستوى منطقة الشرق الأوسط، لإمتلاكها كافة المقومات التنافسية التي تؤهلها لذلك، على مستوى البنية التحتية الرقمية المجهزة، والأسعار، وتوافر الكوادر البشرية المؤهلة، مشيرين إلى ضرورة العمل على تعزيز هذه المقومات عبر العديد من الاستثمارات والمبادرات التي تتواكب مع تطورات خدمات التعهيد التي يتطلبها السوق العالمي ، وذلك في ظل تراجع معدل الطلب على الخدمات الصوتية التقليدية في هذا القطاع، مثل التعامل مع منصات التواصل الاجتماعي والتسويق الرقمي وغيرها.
وأشاروا إلى أن خطة مضاعفة صادرات خدمات التعهيد تتطلب بشكل حاسم مراعاة الطلب المتنامي على نوعيات متطورة من خدمات التعهيد ، مما يعزز من قدرات الدولة المصرية على أن تكون منافسا قويا في مجالات خدمات مراكز الاتصال الدولية وخدمات تكنولوجيا المعلومات، ومراكز البحوث، والبرامج المدمجة والتصميم الإلكتروني، بالإضافة إلى انها اختبار ناجح للحوافز الحكومية المقدمة في هذا الإطار واستراتيجية صناعة التعهيد (2022-2026) .
يذكر انه تم إعلان استراتيجية صناعة التعهيد في فبراير 2022، والتي تستهدف زيادة حجم الصادرات من منتجات تكنولوجيا المعلومات والخدمات العابرة للحدود بنحو ثلاثة أضعاف ، وتشمل عددا من الحوافز والبرامج المصممة خصيصا من منظور المستثمر لكي تلائم تطلعات الصناعة، وتستهدف في مضمونها تحسين القدرة التنافسية للتكلفة الإجمالية لصناعة التعهيد في الدولة المصرية مقارنة بالدول المنافسة، بالإضافة إلى جذب الاستثمارات الأجنبية، ودعم التوسع في الاستثمارات الموجودة بالفعل، إلى جانب احتوائها على برامج ومبادرات نوعية لصقل مهارات الشباب والعاملين بصناعة التعهيد بما يضمن بناء قدرات وكفاءات على مستوى مهنى يواكب متطلبات سوق العمل الدولى.
وتركز استراتيجية مصر الرقمية للخدمات العابرة للحدود 2022/2026 على 8 قطاعات رئيسية، هي مراكز الاتصال، والتصميم والتصنيع باستخدام الحاسب الآلي (CAD/CAM)، والبرمجيات المدمجة، وخدمات الشركات، والاختبار، والخدمات المصرفية والتأمين والخدمات المالية (BFSI)، وخدمات التقنيات العالية.\
قال الدكتور عادل دانش، الرئيس الأسبق لشركة اكسيد، إن صناعة التعهيد سوف تستمر في قيادة الصادرات الرقمية خلال العام المقبل 2025 ، في ظل المكتسبات الأخيرة التي أضيفت لتلك الصناعة، لافتاً إلى زيادة قيمة صادرات مصر الرقمية 6.2 مليار دولار في 2022-2023، مع توقعات بزيادة هذا الرقم إلى 13 مليار دولار بحلول 2025.
وأضاف دانش، أن مصر تمتلك العديد من مقومات النجاح لتعزيز المنافسة على الساحة العالمية كوجهة مفضلة للاستثمارات التكنولوجية ومنها؛ الموقع الجغرافي، فمصر تتمتع بموقع استراتيجي يربط بين أوروبا، آسيا، وأفريقيا، مما يجعلها مركزًا مثاليًا لخدمات التعهيد.
إضافة إلى توافر الكوادر الشابة المؤهلة ذات المهارات اللغوية والتقنية العالية، علاوة على تطور البنية التحتية للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بشكل ملحوظ، مما يدعم نمو صناعة التعهيد.
كما أشار الدكتور عادل دانش، الرئيس الأسبق لشركة اكسيد، إلى أن الحكومة المصرية تقدم دعمًا قويًا من خلال سياسات تشجيعية وقوانين تنظيمية مثل قانون حماية البيانات الشخصية وقانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، إضافة إلى توقيع اتفاقيات مع شركات عالمية لتعزيز خدمات التعهيد وإنشاء مراكز جديدة في مصر.
ولتشجيع الشركات العالمية على توسيع عملياتها في مصر، شدد على ضرورة الاهتمام بتحسين مناخ الاستثمار من خلال تقديم حوافز ضريبية وتسهيلات إجرائية للشركات الناشئة والتكنولوجية، جنبًا إلى جنب مع إتباع استراتيجية للترويج الدولي والمشاركة في المؤتمرات والمعارض الدولية للترويج لمصر كوجهة مفضلة لخدمات التعهيد.
وأصبحت صناعة التعهيد من أهم مصادر العملة الأجنبية لمصر خلال الفترة الماضية، ويتواجد العديد من الشركات الدولية متعددة الجنسيات كشركة “Alorica” وشركة “VXI” الأمريكية، بالإضافة إلى شركة “إنتلسيا” و”Foundever”، وشركة “طلبات”، المملوكة لمجموعة دليفري هيرو الألمانية، وكونستريكس وساذرلاند الأمريكتين،، وترانسكوم، وفودافون للخدمات الذكية”، وتيلي بيرفورمانس الفرنسية، إلى جانب إكسيد، وراية لخدمات مراكز الاتصال.
وفي السياق ذاته، أكد المهندس محمد الحارثي، خبير تكنولوجيا المعلومات، أن مصر تمتلك قدرات كبيرة في صناعة التعهيد خصوصاً في الفرق الواضح بين سعر صرف الدوﻻر وهو ما يشجع بعض كبرى الشركات لبدء إتاحة خدماتها في مصر، ولا ينطبق ذلك على خدمات التعهيد فقط ومراكز الاتصالات “الكول سنترز”، لكن نضيف عليها الخدمات الخاصة بصناعة المنتجات الرقمية والبرمجيات.
وأشار إلى أن بعض الدول العربية بدأت بالفعل أنها تتيح وجود المصانع الرقمية في مصر، كما أنها أصبحت نقطة جاذبة لبعض الخدمات التي تخدم الصناعة الرقمية في بعض الدول، فأصبحت بعض الخصائص وفرق العمل تنطلق من مصر.
وأكد أن مصر لديها فرق العمل في البرمجيات مفتوحة المصدر، وبعض الخدمات الخاصة بالدعم الفني، وبعض خدمات الأمن السيبراني واختبارات الأنظمة والبناء الهيكلي ومراجعة التوافق مع المعايير الأمنية العالمية، فأصبح هناك من التخصصات في فرق العمل وإدارة المشروعات التي تعمل من مصر.
وأضاف الحارثي، أن من المهم وجود بيئة جاذبة للشركات العالمية العاملة في قطاع التعهيد، علاوة على الامتيازات الموجودة حاليًا وفقاً لفكرة الإنترنت وتطور البنية التحتية المعلوماتية، مشدداً على ضرورة تعزيز وتحسين جودة خدمات الانترنت بشكل كبير لأن جميع الخدمات تعتمد على سرعات فائقة موجودة وعدم وجود انقطاعات في بعض الخدمات، لأن جميع الشركات تعمل من مقرات افتراضية أو من المنزل أو من مقرات عمل تشاركية، بالتالي من المهم الاستثمار في هذه المسألة.
وعن وجود مراكز البيانات في مصر، تابع المهندس الحارثي أنها تعطي ميزة مضافة وقيمة لخدمات التعهيد، مشيراً إلى أهمية إعطاء نماذج تحفيزية للمستثمريين في هذه القطاعات وخاصة للشركات العاملة في مجالات الخدمات الرقمية عموماً وليس فقط الكول سنترز أو التصنيع الرقمي أو تطوير البرمجيات وخلافه
من جانبه أكد الدكتور محمد عيسى رئيس شركة اتصال الدولية، على أهمية ربط المناهج التعليمة في الجامعات بمتطلبات سوق التعهيد وتدريس مواد خدمة العملاء والمهارات المطلوبة لمنصات التواصل الاجتماعي في الجامعات والمدارس التكنولوجية المتخصصة، مقترحا إنشاء أكاديميات متخصصة لتأهيل الشباب لمتطلبات سوق العمل في خدمات التعهيد، بما يوفر كادر منافس عالميًا ويضمن استدامة نمو الصناعة في مصر خاصة مع التقديرات التي تشير إلى أن حجم السوق العالمية على الخدمات العابرة للحدود بلغت نحو 540 مليار دولار وبنسبة نمو سنوي 9% حتى عام 2026.
وأشار إلى إن وضع الدولة الحالي في صناعة التعهيد ومخرجات التوسع في عملية التحول الرقمي الحالية تجعلها في وضع مثالي للاستفادة من اتجاهات التعهيد المستقبلية من خلال الاستفادة من نقاط قوتها، مشيرا إلى أن نشاط خدمات التعهيد سيساهم بقوة في توفير العملة الصعبة وعلى رأسها الدولار الأمريكي وإتاحة الآلآف من فرص العمل، إلى جانب المساهمة فى الناتج المحلي للدولة بمليارات الدولارات.
ونوه الدكتور محمد عيسى إلى أنه توجد فرص كبيرة لشركات التعهيد في مصر رغم الظروف والتداعيات الاقتصادية الحالية ، خاصة تلك الشركات التى تتبنى خطط متكاملة للتطوير والتدريب والاعتماد على البرمجيات الحديثة، مشيرا إلى أن الظروف الحالية والتوترات الجيوسياسية وقبلها عمليات الإغلاق التي أعقبت جائحة كورونا أكدت أهمية صناعة التعهيد والدور الذى تلعبه في الاقتصاديات الحديثة.
وذكر أن تراجع الجنيه المصري مقابل الدولار سيسهم في جذب عملاء جدد من أماكن متعددة لمنافسة أسواق أخرى، موضحاً أن مصر تنافس حالياً الهند والفلبين، وهي تتميز بأسعار أقل مقارنة بجنوب أفريقيا.
ولفت أن هناك نمو وتنامي في الطلب على خدمات التعهيد على مستوى الدول وأيضا على مستوى نوعي من القطاعات الاقتصادية الرئيسية كقطاعات الخدمات المالية غير المصرفية والسياحة والرعاية الصحية لافتا إلى أن الشركات المصرية تركز بشكل رئيسي على منطقة الخليج لحجم الطلب الكبير منها على هذه النوعية من الخدمات، ولديها فرصة حاليا في زيادة نسب اختراثها للسوق الأوروبي والأمريكي كونهما من أهم الأسواق الجاذبة للشركات العاملة في هذه الصناعة وامتلاكهم لثقافة مؤسسية تتبني خدمات التعهيد كخيار رئيسي للأعمال.
وشدد الدكتور محمد عيسى، على أن الدولة المصرية لديها أكبر ميزة تنافسية تحتاجها هذه الصناعة، حيث تمتلك الموارد البشرية القادرة على تقديم خدمات التعهيد بكفاءة عالية، إلا أنها تحتاج لمذيد من الجهود لتخريج أجيال من الشباب الجدد في ظل قدرتها على كسر حاجز الـ 10 مليار إيرادات سنويًا من جراء تقديم خدمات التعهيد والخدمات العابرة للحدود.
وتعمل وزارة الاتصالات على تكثيف عمليات تدريب الشباب فى العديد من تخصصات التكنولوجيا، فضلا عن إطلاق العديد من المبادرات بهذا الشأن، سواء عبر مبادرة «مستقبلنا رقمى» ونشر مراكز الإبداع بالمحافظات لدعم أفكار الشباب وتطويرها لمساعدتهم على إنشاء شركات ناشئة، بالإضافة إلى تدريب الشباب للعمل بمركز التعهيد وتصدير الخدمات التكنولوجية. وقد تم رفع ميزانية تدريب الشباب فى الوزارة 50 ضعفا منذ ثلاث سنوات، حيث كان يتم تدريب 4 آلاف شاب سنويا بقيمة 50 مليون جنيه، وحاليا يتم تدريب 200 ألف شاب وفتاة سنويا بقيمة مليار و100 مليون جنيه.
وذكر الدكتور محمد عيسي، على أهمية ضرورة العمل علي تطوير صناعة التعهيد بالشكل الأمثل والترويج لها في العديد من الأسواق العالمية المستهدفة ورفع مهارات الكوادر البشرية داخل الشركات، وصياغة ورقة عمل للصناعة بشراكة مستدامة بين الحكومة والقطاع الخاص ، حيث يمكن لصناعة التعهيد أن تكون مصدر للعملة الصعبة يفوق السياحة في حالة دعم مرتكزاتها، مشيرا إلى توقعاته أن يشهد سوق خدمات التعهيد فى مصر نموا ملحوظا خلال الأعوام الثلاثة المقبلة نظرا لوجود اسعار تنافسية يقدمها السوق المصرية.