صناعة الرقائق الإلكترونية أصبحت أحد أبرز الأزمات الرئيسية للتوتر بين الولايات المتحدة والصين، كونها تمثل العمود الفقري لصناعات تكنولوجية متقدمة كالهواتف الذكية، الحواسيب، الأجهزة المنزلية الذكية، والسيارات الكهربائية.
الأزمة تكشف عن المنافسة الشرسة بين أكبر اقتصادين في العالم، حيث تتصاعد الجهود الأمريكية لاحتواء النفوذ الصيني المتنامي في هذا القطاع الاستراتيجي، لكن لماذا أصبحت الرقائق تحديدًا في قلب هذا الصراع؟ ولماذا تشكل أزمة كبيرة في العلاقة بين البلدين؟ ولماذا كانت محورا رئيسيا في المناظرة التي جرت بين المرشح الجمهوري للرئاسة الامريكية دونالد ترامب والمرشحة الديمقراطية كامالا هاريس.
حسب تقرير عن صحيفة “ساوث اتشينا مورنينج بوست”، فإن الرقائق أو أشباه الموصلات هي مكونات أساسية في صناعة الإلكترونيات الحديثة، وتلعب دورًا حاسمًا في مجموعة واسعة من الصناعات، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي، تقنيات الجيل الخامس، الحوسبة السحابية، وحتى التطبيقات العسكرية
من خلال السيطرة على سلاسل إمداد الرقائق، يمكن لأي دولة أن تتحكم في قدرة خصومها على الابتكار في هذه المجالات الحيوية، بالنسبة للولايات المتحدة، ضمان استمرار ريادتها في هذا القطاع يعني تأكيد تفوقها التكنولوجي والاقتصادي، في حين أن الصين ترى في تعزيز إنتاج الرقائق محليًا وسيلة لتحقيق الاكتفاء الذاتي وتقليل اعتمادها على التكنولوجيا الأجنبية.
بدأت الأزمة بشكل واضح خلال رئاسة دونالد ترامب عندما فرضت إدارته قيودًا صارمة على الشركات الصينية الكبرى مثل “هواوي”، ومنعتها من الوصول إلى الرقائق المتقدمة المصنوعة باستخدام التكنولوجيا الأمريكية.
جاءت الخطوة ضمن حملة أوسع للحد من قدرة الصين على الوصول إلى التقنيات الحساسة التي يمكن أن تعزز قدراتها العسكرية والاستخباراتية، إدارة الرئيس الحالي جو بايدن واصلت هذه السياسة، وأصدرت قوانين تمنع تصدير الرقائق المتطورة للصين، مما أثار قلقًا كبيرًا في بكين.
من جانبها، تدرك الصين أنها لا تستطيع الاعتماد على الغرب لتزويدها بالرقائق المتطورة إلى الأبد، لذا، فقد وضعت خطة طموحة لتعزيز صناعة أشباه الموصلات المحلية، بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي في هذا المجال بحلول منتصف هذا القرن.
الحكومة الصينية استثمرت مليارات الدولارات في الأبحاث والتطوير، وقدمت حوافز مالية كبيرة للشركات التي تعمل في هذا المجال، ورغم ذلك، فإن بناء صناعة رقائق متقدمة يستغرق وقتًا طويلاً، ويتطلب قدرات تقنية فائقة وشبكة واسعة من الموردين والخبرات، ما يجعل الصين حاليًا غير قادرة على الاستغناء عن الموردين الأجانب.
أزمة الرقائق تؤثر بشكل مباشر على سلاسل التوريد العالمية، مما أدى إلى نقص حاد في الإلكترونيات والمنتجات التي تعتمد على هذه المكونات، ما تسبب في تعطل الإنتاج الصناعي على مستوى العالم.
علاوة على ذلك، فإن التوترات بين الولايات المتحدة والصين بشأن الرقائق تعزز من سباق التسلح التكنولوجي بين البلدين، بكين ترى أن الولايات المتحدة تحاول تقويض قدرتها على النمو التكنولوجي وتحجيم طموحاتها بأن تصبح قوة عالمية رائدة في مجال الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الفائقة.
في ظل هذا الصراع، تظهر الرقائق كعنصر حاسم في المعركة على التفوق التكنولوجي. الولايات المتحدة تحاول الحفاظ على موقعها كقائد عالمي في صناعة الرقائق المتقدمة، بينما تسعى الصين إلى تقليص الفجوة وتحقيق الريادة.
التوترات حول الرقائق تجسد أيضًا معركة أوسع على السيطرة على البنية التحتية التكنولوجية المستقبلية، بما في ذلك شبكات 5G والحوسبة الكمومية.
إحدى الأسباب الرئيسية وراء هذه الأزمة هي التطبيقات العسكرية للرقائق، القدرة على تصنيع أشباه الموصلات المتطورة تمنح الدول ميزة هائلة في مجال الأسلحة الذكية والطائرات بدون طيار وأنظمة الدفاع المتقدمة.
الصين تطور قدراتها العسكرية بشكل متسارع، وهو ما يدفع الولايات المتحدة إلى اتخاذ خطوات صارمة لمنع بكين من الوصول إلى الرقائق التي يمكن استخدامها في تعزيز تفوقها العسكري.
أزمة الرقائق بين الولايات المتحدة والصين ليست مجرد نزاع اقتصادي، بل هي جزء من منافسة جيوسياسية شاملة على التفوق التكنولوجي والعسكري، مع تزايد أهمية الرقائق في الصناعات المستقبلية، ستظل هذه الأزمة تشكل محورًا رئيسيًا للتوتر بين البلدين. الولايات المتحدة تسعى لاحتواء الطموحات الصينية، بينما تحاول بكين تحقيق الاكتفاء الذاتي في قطاع استراتيجي يحدد شكل الاقتصاد العالمي في العقود القادمة.