بعد قراءة هذا المقال، قد تتساءل ما إذا كان كاتبه إنساناً، وهذا التساؤل لم يكن ليخطر على بالك قبل بضع سنوات. لكن اليوم، أصبحت الآلات قادرة على كتابة مقالات، كتب، برمجيات، وحتى رسومات توضيحية بطريقة تجعل من الصعب تمييزها عن تلك التي يبدعها البشر.
هل تتذكر “آلة كتابة الروايات” التي ظهرت في رواية جورج أورويل “1984” أو “الملحن” الذي كان يؤلف موسيقى شعبية؟ ما كان خيالاً في الماضي، أصبح الآن واقعاً. وقد حدث هذا التحول بسرعة كبيرة، مما أثار قلق الكثيرين حول مستقبل الوظائف التقليدية، وخاصة تلك المرتبطة بالعمل المكتبي والفن، وخشية فقدان الوظائف خلال 10 أعوام؛ حيث يشعر الفنانون الشباب بالقلق حول ما إذا كان عليهم مواصلة تعليمهم في هذا المجال.
ما يلفت الانتباه حقاً هو السرعة الهائلة التي حدث بها هذا التغيير. خلال الخمسة عشر عاماً التي قضيتها في تغطية أخبار التكنولوجيا، لم أشهد مجالاً يتطور بوتيرة كالتي تقدم بها الذكاء الاصطناعي في العامين الماضيين فقط. إطلاق “تشات جي بي تي” في نوفمبر 2022 أشعل سباقاً لتطوير نوع جديد تماماً من الذكاء الاصطناعي، الذي لم يعد يقتصر على معالجة المعلومات فقط، بل أصبح قادراً على توليدها أيضاً. في بداية هذا التحول، كانت أدوات الذكاء الاصطناعي تقدم صوراً غير منطقية وغير متسقة للكلاب، لكنها اليوم تنتج صوراً واقعية للرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، تبدو وكأنها حقيقية تماماً.
يرى العديد من مطوري الذكاء الاصطناعي في هذه التكنولوجيا فرصة لتحقيق عالم مثالي، فيما يخشى آخرون من أنها قد تؤدي إلى انهيار حضارتنا. وبينما تلفت انتباهنا سيناريوهات الخيال العلمي المثيرة، يغفل البعض عن المخاطر الواقعية التي يشكلها الذكاء الاصطناعي على المجتمع، مثل تعزيز التحيزات الراسخة، وتهديد الصناعات الإبداعية بأكملها، إلى جانب العديد من التحديات الأخرى التي قد تؤثر بشكل عميق على مستقبلنا.
وراء هذه القوة غير المرئية تقف شركات تكنولوجية سيطرت على مسار تطوير الذكاء الاصطناعي وتسابقت في تعزيز تقنياته. هذه الشركات، المدفوعة بشغف لا ينضب لتحقيق النمو، غالباً ما لجأت إلى اختصار الطرق في تطوير منتجاتها، وأحياناً تعمدت تضليل الجمهور بشأن قدراتها الحقيقية، مما أثار تساؤلات حول أهليتها في تحمل مسؤولية تطوير هذه التكنولوجيا.
لم يسبق لأي منظمة في التاريخ أن امتلكت مثل هذه القوة أو التأثير على حياة الناس كما هو الحال مع عمالقة التكنولوجيا اليوم. على سبيل المثال، توفر شركة “غوغل” التابعة لـ”ألفابت” خدمات البحث عبر الإنترنت لنحو 90% من مستخدمي الإنترنت حول العالم، فيما تُستخدم برامج “مايكروسوفت” من قبل 70% من مستخدمي الحواسيب. بالإضافة إلى ذلك، أدى إطلاق “تشات جي بي تي” طفرة هائلة في مجال الذكاء الاصطناعي، مما زاد من القيمة السوقية لست شركات تكنولوجيا كبرى، وهي “ألفابت” و”أمازون” و”أبل” و”ميتا بلاتفورمز” و”مايكروسوفت” ومؤخراً “إنفيديا”، بنحو 6.7 تريليون دولار منذ نوفمبر 2022.
مع ذلك، لم تشعر أي من هذه الشركات بالرضا بعد. تتنافس “مايكروسوفت” على الحصول على جزء من سوق البحث التي تهيمن عليها “غوغل” والتي تبلغ قيمتها 150 مليار دولار، بينما تسعى “غوغل” بدورها لاقتناص حصة من سوق الحوسبة السحابية، التي تبلغ قيمتها 110 مليارات دولار، وتسيطر عليها “مايكروسوفت”. في هذا الصراع، استولت كل شركة على أفكار الأخرى. وعند التعمق أكثر، نجد أن الكثير من الواقع الحالي للذكاء الاصطناعي قد صاغه إلى حد كبير رجلان، هما سام ألتمان وديميس هاسابيس.
سام ألتمان، رائد أعمال في أواخر الثلاثينات من عمره، اشتهر بمظهره النحيف وهدوئه وارتدائه الدائم للأحذية الرياضية في العمل. في المقابل، ديميس هاسابيس، بطل شطرنج سابق في أواخر الأربعينات، مهووس بالألعاب. كلاهما يتمتع بذكاء خارق ورؤية ملهمة للذكاء الاصطناعي، مما جعلهما يحظيان بولاء وتفانٍ كبيرين من أتباعهما، أشبه بالانتماء الطائفي.
حقق الرجلان نجاحات كبيرة لأنهما كانا مهووسين بالانتصارات. ألتمان هو من قدم للعالم “تشات جي بي تي”، بينما كان هاسابيس المحرك وراء سرعة تطور هذا النظام. دورهما لم يقتصر على رسم مسار الذكاء الاصطناعي في الوقت الحالي فحسب، بل أيضاً على تحديد التحديات المستقبلية، خاصةً تلك المتعلقة بالجوانب الأخلاقية لكيفية توجيه الذكاء الاصطناعي حينما يكون تحت سيطرة نخبة محدودة.
واجه ديميس هاسابيس تحدياً أكبر عندما أسس شركة “ديب مايند” (DeepMind) في عام 2010، وهي أول شركة في العالم تهدف إلى بناء ذكاء اصطناعي يحاكي ذكاء الإنسان. كان هدفه تحقيق اكتشافات علمية عميقة حول أصول الحياة وطبيعة الواقع وعلاج الأمراض، وتبنى شعاراً مفاده “حل مشكلة الذكاء، ثم حل كل شيء آخر”.
بعد بضعة أعوام، بدأ ألتمان في تأسيس شركة “أوبن إيه آي” (OpenAI) بهدف بناء تقنية ذكاء اصطناعي مماثلة، لكنه ركز بشكل أكبر على تحقيق الوفرة الاقتصادية للبشرية وزيادة الثروة المادية، ومساعدة الجميع على “عيش حياة أفضل”، كما أخبرني هو بذلك. وأضاف أنه “قد تكون هذه أعظم أداة ابتكرها البشر حتى الآن، فهي تتيح لنا القيام بأمور تتجاوز نطاق الممكن”.
خطط ألتمان وهاسابيس كانت أكثر طموحاً من أحلام رواد وادي السيليكون المتحمسين. فقد أرادا تطوير ذكاء اصطناعي قوي لدرجة إحداث تحول جذري في المجتمع، وجعل الاقتصاد والتمويل غير ضروريين. وكانا يريان نفسيهما حصرياً يحملان مفاتيح تحويل هذا الحلم إلى واقع.
في ظل سعيهما لبناء ما قد يكون أحدث اختراع للبشرية، واجه الرجلان تحدياً رئيسياً يتعلق بكيفية السيطرة على هذه التكنولوجيا التحويلية. في البداية، كانا يعتقدان أن الشركات العملاقة مثل “غوغل” و”مايكروسوفت” لا ينبغي أن تكون المتحكمة بشكل مباشر في تطوير الذكاء الاصطناعي لأنها تفضل الربح على رفاهية البشرية. لذلك، وعلى مدار أعوام، سعى كلاهما على جانبي المحيط الأطلسي إلى ابتكار أساليب جديدة لإدارة مختبرات أبحاثهما بهدف حماية الذكاء الاصطناعي وضمان أن تكون أولويته خدمة الإنسانية، مع تعهدهما بأن يكونا حارسين حريصين على تطوير هذه التكنولوجيا.
سعى ألتمان وهاسابيس ليكونا الأوائل في تطوير هذه التكنولوجيا الفائقة، فقد كانا بحاجة إلى تمويل وقوة الحوسبة لإنشاء أقوى برنامج في التاريخ، مما جعلهما يعتمدان على وادي السيليكون. وبمرور الوقت، أدركا أن التعاون مع عمالقة التكنولوجيا أصبح ضرورياً، لكن هذا أدى إلى تنازلات عن أهدافهما الأساسية النبيلة وسط ازدياد نجاح جهودهما في تطوير الذكاء الاصطناعي الفائق، وتعرضهما الكبير لأيديولوجيات جديدة وغريبة من كافة الاتجاهات. فقد سلما السيطرة على هذه التكنولوجيا إلى شركات سارعت ببيع أدوات الذكاء الاصطناعي للجمهور دون رقابة فعلية من الجهات التنظيمية، مما أسفر عن عواقب بعيدة المدى.
في الوقت نفسه، هددت هذه الهيمنة في مجال الذكاء الاصطناعي بتقليص المنافسة، وإتاحة الفرصة لتدخلات غير مسبوقة في الحياة الخاصة، بجانب تفاقم أشكال جديدة من التحيز العنصري والجنسي. فعلى سبيل المثال، إذا طلبت من بعض أدوات الذكاء الاصطناعي الشهيرة إنشاء صور لنساء، فإنها غالباً ما تُظهرهن بملابس غير لائقة، وإذا طلبت صوراً لرؤساء تنفيذيين واقعيين، فإنها ستنتج صوراً لرجال بيض. وفي بعض الحالات، تنتج الأنظمة صوراً لرجال سود إذا طلبت منها صورة لمجرم.
في محاولة غير ناجحة لتصحيح هذه التحيزات، أطلقت “غوغل” أداة لإنشاء الصور في فبراير 2024، لكنها أفرطت في تصحيح تلك الأخطاء، مما دفع الشركة لإيقافها. مثل هذه الأنظمة على وشك أن تندمج في منصات وسائل الإعلام والهواتف الذكية، وحتى أنظمة العدالة، دون إيلاء اهتمام كافٍ بكيفية تأثيرها على الرأي العام، خاصة مع قلة الاستثمار في أبحاث الأخلاقيات والسلامة.
لم تكن رحلة ألتمان وهاسابيس مختلفة كثيراً عن تلك التي خاضها رائدا الأعمال توماس إديسون وجورج ويستينغهاوس قبل قرنين، والتي دخلا خلالها في صراع. فقد كانا يسعيان لتحقيق حلم إنشاء نظام مهيمن لتوصيل الكهرباء إلى ملايين المستهلكين. وكلاهما كان مخترعاً تحول إلى رائد أعمال، مع إدراكهما أن تقنيتهما ستزود العالم الحديث بالكهرباء يوماً ما.
لكن السؤال الذي كان يدور آنذاك، هو من سيخرج منتصراً؟ في النهاية، كان نظام ويستينغهاوس الكهربائي الأكثر كفاءة هو الذي انتشر على نطاق واسع حول العالم، لكنه لم يفز بما يُعرف بـ”حرب التيارات”، بل كانت شركة إديسون الأكبر حجماً، والمعروفة باسم “جنرال إلكتريك”، هي من فازت في النهاية.
مع ازدياد الضغوط التجارية على ألتمان وهاسابيس لتطوير نماذج ذكاء اصطناعي أكبر وأقوى، برز عمالقة التكنولوجيا باعتبارهم فائزين حقيقيين. لكن السباق هذه المرة يجري لمحاكاة ذكائنا البشري.
الآن، أصبح العالم في حالة من الفوضى بسبب الذكاء الاصطناعي التوليدي الذي يبشر بجعل الناس أكثر إنتاجية وتوفير مزيد من المعلومات المفيدة عبر أدوات مثل “تشات جي بي تي”. مع ذلك، كل ابتكار له ثمن، حيث تتكيف الشركات والحكومات مع واقع جديد بات فيه التمييز بين المحتوى الحقيقي و”المولد عبر الذكاء الاصطناعي” مسألة حظ. وتستثمر الشركات مبالغ طائلة على برامج الذكاء الاصطناعي لاستبدال موظفيها وتعزيز هوامش أرباحها، في وقت تظهر فيه أجهزة جديدة تتيح مستويات جديدة من المراقبة الشخصية.
وصلنا إلى هذه المرحلة بعد أن سحقت قوى الاحتكار في النهاية رؤى اثنين من المبتكرين الذين سعوا لتطوير ذكاء اصطناعي لخدمة الخير. قصتهما تجمع بين المثالية والسذاجة والأنانية، حيث توضح كيف يكاد يكون من المستحيل الحفاظ على قواعد أخلاقية ضمن نطاق سيطرة عمالقة التكنولوجيا ووادي السيليكون.
واجه ألتمان وهاسابيس تحديات كبيرة في إدارة الذكاء الاصطناعي، فقد كانا يدركان أن العالم بحاجة إلى إدارة مسؤولة لتجنب حدوث ضرر لا رجعة فيه. لكنهما لم يستطيعا تطوير ذكاء اصطناعي بهذه القوة دون موارد ضخمة لا تقدمها سوى أكبر شركات التكنولوجيا في العالم. وفي ظل سعيهما لتحسين حياة البشر، وجدا نفسيهما يُمكنان تلك الشركات من السيطرة، مما ترك رفاهية البشرية ومستقبلها في خضم صراع من أجل الهيمنة التجارية.
بعد بيع “ديب مايند” لشركة “غوغل” في عام 2014، حاول هاسابيس والمؤسسون المشاركون لأعوام إعادة هيكلة شركتهم لتصبح مؤسسة غير ربحية. فقد كان هدفهم حماية أنظمة الذكاء الاصطناعي متزايدة القوة من الوقوع تحت سيطرة شركة تقنية عملاقة واحدة، وسعوا لتأسيس مجلس من الشخصيات المستقلة البارزة، بمن فيهم رؤساء دول سابقون مثل باراك أوباما، للإشراف على استخدام الذكاء الاصطناعي. حتى أنهم صمموا ميثاقاً قانونياً جديداً يركز على رفاهية الإنسان والبيئة.
في البداية، بدت “جوجل” متفقة مع هذه الخطة، ووعدت بتقديم دعم بمليارات الدولارات لصالح “ديب مايند”، لكن مسؤوليها التنفيذيين ماطلوا في تنفيذ الوعود. وفي النهاية، أحكمت “غوغل” قبضتها على “ديب مايند”، مما حوّل مختبر الأبحاث الذي ركز ذات يوم على “فهم الذكاء الاصطناعي” لأغراض مثل علاج السرطان أو حل أزمة المناخ، للتركيز بشكل أساسي الآن على تطوير منتج الذكاء الاصطناعي الرئيسي “جيميناي” (Gemini).
على الجانب الآخر، اتبع سام ألتمان مساراً مشابهاً. فقد أسس “أوبن إيه آي” بهدف تطوير ذكاء اصطناعي لخدمة البشرية دون أي “التزامات مالية”. ومع ذلك، بدأ بالتراجع عن هذا الالتزام خلال السبعة أعوام الماضية، حيث أعاد هيكلة شركته غير الربحية لتصبح شركة “هادفة للربح” لتتلقى استثمارات بمليارات الدولارات من “مايكروسوفت”، وأصبحت فعلياً ذراعاً تابعة لشركة البرمجيات. ويُقال الآن إنه يسعى لإعادة الهيكلة مجدداً لجعل الشركة أكثر جاذبية للمستثمرين وجمع مليارات إضافية من الدولارات، مما قد يؤدي إلى إضعاف دور مجلس الإدارة الذي يضمن أن “أوبن إيه آي” تخدم مصالح البشرية.
بعد إطلاق “تشات جي بي تي”، شعرت بالدهشة إزاء تحول هذين المبتكرين عن رؤيتهما الإنسانية. بطبيعة الحال، وعود وادي السليكون الكبرى بجعل العالم مكاناً أفضل غالباً ما تبدو خادعة عندما تصنع شركاتها خدمات متوسطة الجودة أو تسبب الإدمان، ويصبح مؤسسوها مليارديرات. لكن ما يثير القلق بشكل أكبر هو تحول ألتمان وهاسابيس عن مبادئهما التأسيسية، فقد كانا يسعيان لتطوير ذكاء اصطناعي عام أو حواسيب يمكنها تجاوز قدرات الدماغ البشري، وتداعيات ذلك كانت هائلة، فقد أدت تحركاتهما الآن إلى تعزيز نفوذ عمالقة التكنولوجيا الحاليين. أما نحن، فسنكتشف الثمن الذي سندفعه قريباً.
بارمي أولسون
كاتبة في بلومبيرج في مجالات التكنولوجيا