يشهد سوق التكنولوجيا العميقة العالمي نموًا سريعًا، حيث من المتوقع أن يصل حجمه إلى 714.6 مليار دولار بحلول عام 2031، ويعود هذا النمو إلى زيادة استثمارات البحث والتطوير والدعم الحكومي القوي للابتكار، وهناك توقعات أخرى تذهب إلى أبعد من ذلك، حيث توقع المؤلف والتقني الأمريكي إيريك ريدموند في كتابه (Deep Tech)، أن تضخ التكنولوجيا العميقة 100 تريليون دولار على الاقتصاد العالمي، بحلول عام 2030.
ويطلق مصطلح شركات التكنولوجيا العميقة على فئة من الشركات الناشئة التي تطور منتجات جديدة تعتمد على الاكتشاف العلمي أو الابتكار الهندسي، وتتضمن الذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا الحيوية، وسلسلة الكتل أو “البلوك تشين”، والروبوتات، والضوئيات، والإلكترونيات، والمواد المتقدمة.
لذلك تصب الكثير من الدول اهتمامها على هذا القطاع، وأصبح هناك صناديق استثمار حتى في دول حولنا متخصصة في الاستثمار بشركات التكنولوجيا العميقة، ولدى مصر الرغبة في التواجد على خريطة التكنولوجيا العميقة، من خلال بعض الخطوات التي تتخذها وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، حيث تتبنى خطة لتعظيم الاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي في مختلف القطاعات على سبيل المثال، وتعمل الوزارة على تطوير بيئة تشريعية وتقنية داعمة، إلى جانب تنفيذ برامج تدريبية متقدمة لبناء كوادر مصرية قادرة على قيادة هذا التحول، بالإضافة إلى إطلاق الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي.
وفي خطوة مهمة لدعم قطاع التكنولوجيا العميقة، أعلنت آريا فينتشرز، الاستوديو المتخصص في بناء الشركات الناشئة، عن إطلاق استثمارات بقيمة 50 مليون جنيه لدعم الشركات الواعدة في قطاع التكنولوجيا العميقة، تهدف هذه المبادرة إلى سد الفجوة بين الأبحاث الرائدة والتطبيقات السوقية، وتمكين الابتكارات التكنولوجية العميقة من النمو والازدهار.
وحسب إحصائيات IndustryARC يوجد 86.9 ألف شركة في قطاع التكنولوجيا العميقة حول العالم، منها 30.8 ألف شركة ممولة جمعت مجتمعةً تريليون دولار من رأس المال الاستثماري والأسهم الخاصة. وإجمالاً، مُوِّل 12.7 ألف شركة منها من الفئة A+، وشهد القطاع نشأة 323 شركة ناشئة، وشهد قطاع التكنولوجيا العميقة 4.66 ألف عملية استحواذ و1.42 ألف طرح عام أولي. ويمثل هذا ما يقرب من 7% من إجمالي هذه الشركات، وهو أعلى من معدل خروج شركات التكنولوجيا عمومًا، والبالغ 5.4%.
وتواجه الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا العميقة تحديات أعمال فريدة. أولًا، غالبًا ما تتطلب منتجاتها فترات بحث وتطوير مطولة وتكاليف أولية باهظة، مما يُصعّب عملية التكرار السريع والحفاظ على كفاءة التكلفة، وفقاً لهارفرد بيزنس ريفيو. كما أنها غالبًا ما تتطلب فترات زمنية أطول للوصول إلى مرحلة النضج والجاهزية للسوق.
إضافةً إلى ذلك، تتطلب البيئات التنظيمية الصارمة والتعقيدات التقنية للتكنولوجيا العميقة نهجًا أكثر تطورًا من شركات التكنولوجيا الأخرى. قد يجد القادة الذين نجحوا في قطاعات أخرى – وحتى في مجالات أخرى من التكنولوجيا – التحديات هائلة، وغالبًا ما يكتشفون أن الاستراتيجيات التي نجحت معهم سابقًا قد لا تنطبق على هذا المجال الجديد وبالرغم من ذلك تتمتع شركات التكنولوجيا العميقة بالقدرة على إحداث نقلة نوعية في القطاعات القائمة وإنشاء أسواق جديدة، ومعالجة التحديات العالمية مثل تغير المناخ والرعاية الصحية والاستدامة.
فكيف تضع مصر نفسها على خريطة التكنولوجيا العميقة؟ وما الذي تحتاجه الشركات العاملة في هذا المجال وأهم التحديات التي تواجهها؟
التجربة السعودية
هناك دول بالمنطقة تسعى إلى تصدر مشهد التكنولوجيا العميقة، فالسعودية على سبيل المثال تسعى إلى أن تصبح مركزًا رائدًا للتكنولوجيا العميقة بما يتماشى مع أهداف رؤية المملكة 2030.
وتعتمد خطة وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات السعودية على عدة محاور لتحويل المملكة لمركز رائد في التكنولوجيا العميقة، وذلك بحسب تقرير التقنيات العميقة لوزارة الاتصالات.
وتركز المملكة على تنمية النظام البيئي للشركات الناشئة وريادة الأعمال في المجالات المتعلقة بالتكنولوجيا العميقة، ويشير التقرير إلى استفادة النظام البيئي من وجود أكثر من 1000 شركة ناشئة بمجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، منهم أكثر من 43 شركة تعمل بمجال التقنية العميقة.
أكثر من 50% من الشركات الناشئة المتخصصة في التقنية العميقة بالسعودية تركز على تقنيات الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء وحلول الثورة الصناعية الرابعة، بحسب التقرير.
ونجحت الشركات الناشئة المتخصصة بالتكنولوجيا العميقة في جذب تمويلات بقيمة تجاوزت 100 مليون دولار منذ عام 2020، وقال التقرير إن 5 باحثين سعوديين جاءوا ضمن أفضل 2% من العلماء في العالم، حسب تصنيف جامعة ستانفورد في عام 2023.
وفي 2023 أعلنت السعودية، عن تأسيس “صندوق الابتكار التقني العميق” بميزانية تُقدر بـ 750 مليون ريال (200 مليون دولار) بهدف الاستثمار المبكر في الشركات المحلية والعالمية المتخصصة في التكنولوجيا العميقة.
خطوات لدعم التكنولوجيا العميقة في مصر
ولدى مصر الرغبة في التواجد على خريطة التكنولوجيا العميقة، من خلال بعض الخطوات التي تتخذها وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، حيث تتبنى خطة لتعظيم الاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي في مختلف القطاعات على سبيل المثال، وتعمل الوزارة على تطوير بيئة تشريعية وتقنية داعمة، إلى جانب تنفيذ برامج تدريبية متقدمة لبناء كوادر مصرية قادرة على قيادة هذا التحول، وفقا لتصريح للدكتور عمرو طلعت وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، بالإضافة إلى إطلاق الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي.
وفي خطوة مهمة لدعم قطاع التكنولوجيا العميقة، أعلنت Aria Ventures، الاستوديو المتخصص في بناء الشركات الناشئة، عن إطلاق استثمارات بقيمة 50 مليون جنيه مصري لدعم الشركات الواعدة في قطاع الـ Deep-Technology، تهدف هذه المبادرة إلى سد الفجوة بين الأبحاث الرائدة والتطبيقات السوقية، وتمكين الابتكارات التكنولوجية العميقة من النمو والازدهار.
وتستهدف Aria Ventures زيادة هذا التمويل ليصل إلى 200 مليون جنيه مصري خلال السنوات الأربع القادمة، وذلك لتعزيز التزامها بدعم الابتكار التكنولوجي العميق في المنطقة.
تحديات تواجه شركات التكنولوجيا العميقة
شركات التكنولوجيا العميقة تحتاج إلى المزيد من الخطوات ومواجهة العديد من المعوقات، وفقا للدكتور عمرو العوامري، الرئيس التنفيذي لشركة Aria Ventures، مشيرا إلى أنه هناك العديد من الأشياء التي تحتاجها شركات التكنولوجيا العميقة، فهي تحتاج إلى العمل في معامل بحثية متخصصة، وهي موجودة في الجامعات والمراكز البحثية، وهناك صعوبة في إتاحتها نتيجة البيروقراطية، بالإضافة إلى أن معظم المستثمرين في مصر يرغبون في عائد سريع على استثماراتهم، وهذا لا يحدث في قطاع التكنولوجيا العميقة، فالشركة تحتاج إلى صرف مبالغ كبيرة والانتظار وقت طويل حتى يكون هناك عائد، فهناك عدد قليل جدا من الداعمين للعاملين بهذا القطاع، مثل الدكتور أحمد عبد الحميد مؤسس شركة كحيلان، والدكتور ماجد غنيمة مؤسس شبكة المستثمرين الملائكيين، فهم على دراية بطبيعة التكنولوجيا العميقة وما تحتاجه الشركات العاملة في هذا المجال، حيث إنها تحتاج إلى حوالي 5 سنوات حتى تطرح المنتج الخاص بها، لذلك فهذه الشركات تحتاج مستثمرين لديهم صبر.
ويضيف العوامري أن هناك عائق قانوني يتمثل في منع الباحثين من تأسيس شركات، وتلك الشركات في الغالب تخرج من مركز بحثي أو جامعة، وقانون وزارة التعليم العالي لا يسمح بسرعة كافية للباحث بتأسيس شركة، كما أن إجراءات حقوق الملكية الفكرية تحتاج إلى وقت طويل، فهناك من قدم على براءة اختراع ولم يتم الرد عليها لمدة عام واثنين، ويشير إلى أن هناك تحد آخر متعلق باستيراد بعض المواد الخام والأجهزة.
ويؤكد العوامري أنه رغم كل تلك التحديات إلا أنه شارك في تأسيس Aria Ventures لدعم هذا القطاع، إذ أنه أستاذ جامعي ومعه آخرين، ويدرك أنه لن يستطيع أحد فهم الباحثين واحتياجاتهم سواهم، ولذلك يحاولون تسهيل الأمور عليهم من خلال بعض الخطوات، مثل التعاون مع الجامعات والمراكز البحثية، مؤكدا أن الشركة تسعى لتكون همزة الوصل التي تدعم شركات التكنولوجيا العميقة في مصر.
توفير منح واستثمار حكومي
ويشير المهندس محمود عبد العزيز، مؤسس شركة DevisionX للتكنولوجيا العميقة في تصريحه لمنصة FollowICT، إلى أن طبيعة هذه الشركات تحتاج إلى مبالغ كبيرة واستثمارات مرتفعة بدون ربح واضح حتى تستطيع طرح سوفت وير أو هارد وير، ولذلك فالاستثمار فيها مختلف عن أي مجالات أخرى، وتحتاج إلى وجود نظام خاص بالبحث والتطوير، بالإضافة إلى التعاون مع الجامعات، وتوفير منح من جهات مانحة مثل Itida أو الجهات الداعمة للبحث والتطوير، كما أن الاحتياجات على حسب نوع كل شركة، فهناك مثلا شركات التكنولوجيا الحيوية لديها احتياجات ومواد مختلفة.
ويضيف أن استثمارات التكنولوجيا العميقة بالخارج في الغالب تكون قائمة على استثمارات حكومية، فألمانيا على سبيل المثال توفر منح واستثمارات في هذا القطاع ولكن تشترط تسجيل الشركة في ألمانيا، لأن الحكومة هناك تريد أن تقدم الشركات الناشئة منتجاتها من أرضها، ولذلك هذه النوعية من الشركات تحتاج إلى صندوق استثمار معتمد على دعم حكومي، ومستثمرين يفهمون نوعية التكنولوجيا العميقة، ويفهمون أنه في الغالب منتجات تلك الشركات لن تباع في مصر وسيتم تصديرها من خلال فريق مصري.
فهم دقيق لطبيعة الشركات
من جانبه يقول محمود درويش المتخصص في التكنولوجيا العميقة ومدير مؤسس لشركة قدرة | HEXio بماليزيا ومصر: إنشاء شركات تكنولوجيا عميقة في مصر يتطلب فهماً دقيقاً لطبيعة هذا النوع من الأعمال، فشركات التكنولوجيا العميقة تحتاج غالباً إلى دورات حياة طويلة قبل الوصول إلى مرحلة تحقيق العائدات المالية (monetization)، كما أن نفقاتها التشغيلية عادة ما تكون مرتفعة، ما يتطلب وجود مستثمرين مستعدين لتحمل هذا النوع من المخاطر على المدى الطويل.

ومن هنا، يرى درويش أن الخطوة المنطقية الأولى ليست في تأسيس شركات تكنولوجيا عميقة بشكل مباشر، بل في التركيز على حالات استخدام واضحة (use cases) تعتمد على تقنيات متقدمة، ويمكن من خلالها الوصول إلى قاعدة عملاء حقيقية، مع تقديم حلول لها قيمة مضافة واضحة، بدلاً من تطوير تطبيقات سطحية تفتقر إلى العمق التكنولوجي.
ويضيف أن هذا النهج يتيح لنا بناء نماذج ربحية قابلة للتكرار على أساس تطبيقات عملية، ومن ثم يمكن التوسع لاحقاً في تطوير التكنولوجيا العميقة ذاتها، بحيث يكون لدينا فهم واضح لكيفية مساهمة هذه التقنيات في تحسين الأداء أو تقليل التكاليف أو تحقيق تفوق نوعي في السوق.
وأشار إلى أن التوجه نحو تأسيس شركات تكنولوجيا عميقة منذ البداية، فلا يكون مجدياً إلا إذا كان الفريق المؤسس يمتلك خبرة سابقة في المجال، ويملك التمويل الكافي لتغطية نفقات التشغيل لمدة لا تقل عن ثلاث إلى خمس سنوات، إذ لا توجد شركة تكنولوجيا عميقة يمكنها تحقيق أرباح خلال عام أو عامين فقط.