بالنسبة للمثقفين من طراز معين، لا توجد لعبة أكثر إغراءً من محاولة اكتشاف القوة “الحقيقية” التي تقف وراء المشهد الظاهر للسلطة.
من الذي يتحكم بالأحداث من وراء الكواليس؟ ما المصالح الطبقية التي تخدمها السلطة؟ من الذي “يسيطر فعلياً”؟ مثل هذه الأسئلة تلهم أطروحات مطولة، ونظريات مؤامرة على حد سواء.
حتى الآن، الهدف المفضل حين يتعلق الأمر بإدارة ترامب هو قطاع التكنولوجيا.
يتحدث إيان بريمر، رئيس مجموعة “يوراسيا” للاستشارات السياسية، عن “لحظة هيمنة التكنولوجيا” و”الاندماج المخيف بين قوة التكنولوجيا وسلطة الدولة”.
ستيف بانون، المستشار السابق لترامب، يأسف لتأثير “المهيمنين على التكنولوجيا عالمياً المصممين على تحويل الأميركيين إلى عبيد رقميين”.
الجلسة الافتتاحية لمؤتمر “أسبن إنستيتيوت إيطاليا” حول مستقبل الرأسمالية في ميلانو يوم 16 مايو (والذي كنت أحد المتحدثين فيه) تناولت موضوع “الرأسمالية التكنولوجية: العصر الذهبي الجديد في أمريكا”.
من السهل فهم جاذبية هذا الطرح. فصناعة التكنولوجيا الأميركية تمارس تأثيراً استثنائياً على الاقتصاد الأميركي: “العظماء السبعة” يمثلون ما يقارب ثلث القيمة السوقية لمؤشر “إس آند بي”.
تبرعت شركات التكنولوجيا الكبرى بسخاء لحملة ترمب الانتخابية ومراسم تنصيبه. واكتسب إيلون ماسك لقب “الرئيس المشارك” بينما كان يتجول في المكتب البيضاوي حاملاً ابنه على كتفيه.
ضعف النفوذ السياسي لعمالقة التكنولوجيا
لكن كلما اقتربنا أكثر من “لحظة هيمنة شركات التكنولوجيا الكبرى”، كلما بدت وكأنها سراب. لعل أكثر ما يلفت الانتباه في صناعة التكنولوجيا الأميركية، بالنظر إلى هيمنتها الاقتصادية، هو ضعف نفوذها السياسي النسبي.
يبدو أن ماسك قد تم استبعاده من الدائرة المقربة لترمب رغم إنفاقه ما يقارب 300 مليون دولار لدعم إعادة انتخابه. كانت لحظته تحت الأضواء قصيرة وغير ناجحة. أما وزارة الكفاءة الحكومية فلم تكن سوى جعجعة بلا طحين. تضاءل وعد ماسك بتقليص الإنفاق الحكومي بمقدار تريليوني دولار إلى 150 ملياراً، وربما سيتضاءل أكثر. ليس هذا فقط لأن المحاكم أعاقت حملة تسريح الموظفين التي شنها، بل لأن المشروع بأكمله كان خاطئ التصور؛ كما اعترف ماسك نفسه، فإن الطريقة الوحيدة لتوفير مبالغ جادة من المال هي إصلاح برامج الاستحقاقات، وهو أمر يتطلب سنوات من بناء التحالفات بعناية. فشل ماسك في إقناع ترمب بإلغاء الرسوم الجمركية رغم وصفه كبير مستشاري ترمب التجاريين، بيتر نافارو، بأنه “أحمق تماماً” و”أغبى من كيس حجارة”. حتى الآن، كلّفته مغامرته في السياسة الديمقراطية نحو ربع ثروته الصافية، مع تراجع أسهم “تسلا” وانقلاب مالكي سيارات “تسلا” عليه. فلا عجب إذن أن يشير هو نفسه إلى رغبته في التراجع والانطواء.
فشل ماسك يعكس إخفاق صناعة التكنولوجيا
فشل ماسك في مسألة الرسوم الجمركية يعكس الفشل الأوسع لصناعة التكنولوجيا في تحديد جدول الأعمال الاقتصاد؛ إذ ما من رئاسة لبرني ساندرز كانت لتُلحق ضرراً أكبر بدعائم قطاع التكنولوجيا. إدمان ترمب على الرسوم الجمركية أمر سيئ بطبيعته لقطاع يعتمد على سلاسل التوريد العالمية. حتى أن “أمازون” فكرت لفترة وجيزة في إدراج كلفة الرسوم الجمركية ضمن مفردات الأسعار على المنتجات التي تبيعها قبل أن يتصل ترمب بالرئيس التنفيذي جيف بيزوس غاضباً. الأمر الأسوأ من ذلك هو تقلب ترمب المستمر في الرسوم، ما يجعل التخطيط المستقبلي مستحيلاً. سياساته المناهضة للهجرة تُصعّب من توظيف العمالة الماهرة الأجنبية التي تعتمد عليها شركات التكنولوجيا؛ وتشير أرقام حديثة إلى أن الولايات المتحدة لم تعد تستقطب أفضل المواهب في مجال الذكاء الاصطناعي.
حرب ترمب على الجامعات، والتي تشمل تعليق المنح المستقبلية، وإلغاء القائمة منها، وتغيير آلية تمويل الهيئات البحثية، تهدد منظومة الابتكار النشطة في أميركا. تحدّث الزوار الأميركيون في مؤتمر “أسبن” عن تجميد منح بحثية، وتقليص أقسام، وإلغاء مناصب أستاذية زائرة، وسعي النابهين الأكاديميين لإيجاد وظائف في أوروبا. من المرجح أن تزداد حدة هذه الحرب؛ إذ تقترح ميزانية ترمب لعام 2026 خفض تمويل المعاهد الوطنية للصحة بنسبة تقارب 40%، ومؤسسة العلوم الوطنية بنسبة 57%. كما أن اقتراحاته بفرض ضرائب على عائدات الوقف الجامعي بنسبة 14% أو 21%، أو إلغاء إعفاء الجامعات من الضرائب، ستُعقّد محاولات سد العجز باستخدام أموال الوقف.
رئاسة ترمب تدين أكثر للنزعة الشعبوية منها لنفوذ التكنولوجيا. وقد يؤيد أنصار ترمب الشعبويون ماسك حين يتحدث عن تمرير أجزاء من الحكومة عبر “فرّامة الخشب” (تفكيك أجزاء الدولة)، لكنهم لم ينسوا أن كثيراً من التكنولوجيين كانوا حتى الأمس القريب من الليبراليين الاجتماعيين الذين تبرعوا بسخاء للحزب الديمقراطي، ونقلوا الوظائف الأميركية إلى الخارج. نائب الرئيس جي دي فانس يصف شركتي “أبل” و”جوجل” بأنهما النسخة المعاصرة من “شركة الهند الشرقية” الطفيلية. أما بانون، فيذهب أبعد من ذلك في حلقة البودكاست النارية المفعمة بالوعيد.
سوء فهم قطاع التكنولوجيا
صناعة التكنولوجيا افترضت أن انتخاب ترمب يعني التخلص من سياسات مكافحة الاحتكار التي تبناها جو بايدن. لكن العكس هو ما حدث؛ إذ تواصل لجنة التجارة الفيدرالية ملاحقتها لشركة “ميتا” على خلفية إجهاضها المنافسة الناشئة عند استحواذها على “إنستغرام” و”واتساب”، كما أن وزارة العدل مصممة على إرغام “جوجل” على بيع متصفح “كروم”. تم رفع الدعويين القضائيتين خلال الولاية الأولى لترمب واستمرتا خلال ولاية بايدن، في مؤشر على إجماع متزايد ضد عمالقة التكنولوجيا.
بقدر ما يمتلك ترمب من سياسة اقتصادية، فإنها تركز على استعادة التصنيع أكثر من تعزيز التكنولوجيا. يريد ترمب إعادة التصنيع إلى الولايات المتحدة جزئياً لأنه يدعم نوعية العمال من ذوي الياقات الزرقاء الذين يرى أنهم جعلوا أميركا عظيمة، وجزئياً لأن البلاد بحاجة إلى إنتاج المزيد لمواجهة خصمها الصيني. عموماً، فتح العديد من التنفيذيين في قطاع التكنولوجيا محافظهم أمام ترمب ليس لأنهم يشاطرونه رؤيته لأميركا، بل لأنهم أدركوا أن الديمقراطيين يتجهون نحو الهزيمة بقيادة بايدن، وخشوا أن ينقلب عليهم ترمب.
“العائلية” وليست “التكنولوجية”
بقدر ما لدى ترمب من “قاعدة طبقية”، باستخدام المصطلحات الماركسية القديمة، فإنها تتمثل في الشركات العائلية وليست في عمالقة التكنولوجيا على الساحل الغربي. بيئة ترمب الطبيعية هي بين أصحاب الشركات العائلية الذين ورثوا أعمالهم، ويعملون في العقارات والصناعات الاستخراجية، ويكرهون ثقافة النماذج الإدارية المملة في الشركات الكبرى، ويستمتعون بإظهار ثرواتهم في أماكن مثل “مارالاغو”. هؤلاء يختلفون كثيراً عن أولئك “العباقرة” الذين يبنون العالم الافتراضي (رغم أنهم لا يمانعون جني المال السهل من “العملات المشفرة”).
لكن حتى علاقة ترمب بأصحاب الأعمال العائلية محدودة. فأهم ما يجب فهمه بشأن ترمب هو أنه لا يمثل مصالح أحد سوى مصالحه الخاصة. في الواقع، الأمر المقلق بشأن رئاسته ليس أن هناك قوى تجارية خفية تتحكم في الأمور من وراء الكواليس، بل أن رجل الأعمال الذي يحرك الخيوط (ويغرف الغنائم) هو ترمب نفسه.
أدريان وولدريدج
كاتب عمود الأعمال العالمية- بلومبرج