تشهد صناعة تكنولوجيا التعليم في مصر تحولات استثنائية خلال السنوات القليلية الماضية، مدفوعة بخطط حكومية طموحة تبعتها مشروعات استراتيجية وإفساح المجال للقطاع الخاص لدعم البنية التحتية المطلوبة لاستيعاب الطلب المتنامي على العديد من أنواع التعلم القائم على التكنولوجيا، والتي تعد أوليات حيوية للقيادة السياسية والحكومة وأيضا المؤسسات وصناع القرار في العملية التعليمية في مصر، وذلك لتعزيز الابتكار ولنشر المهارات المعرفية المطلوبة في مجالات العلوم والهندسة والتكنولوجيا وغيرها من العلوم الحديثة.
ويعد أبزر هذه المشروعات بنك المعرفة المصري والذي تم إطلاقه في عام 2016، وهي البوابة الإلكترونية الخاصة التي تتيح للطلاب والباحثين والقراء الوصول إلى الأرشيف الخاص لعشرات الناشرين الأكاديمين إلى جانب عشرات المواد التعليمية الأخرى بدون تكلفة، وذلك بهدف دمج المزيد من الرقمنة في التعليم وتوسيع الوصول إلى مواد تعليمية عالية الجودة من خلال تقديم محتوى رقمي ومواد تفاعلية للطلاب في جميع مستويات التعليم، بهدف تسخير البحوث العلمية لتحقيق النمو الاقتصادي المستدام القائم على المعرفة.
وأخر تطورات المتعلقة بالبنك هذا الشهر، اجتماع الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، بعددًا من الناشرين من دور النشر الدولية، لتعزيز التعاون بمايخدم استكمال الإطار العام لبنك المعرفة باعتباره مرتكزا رئيسيا لإمكانية الوصول إلى مواد بحثية وتعليمية عالية الجودة، ولاندماجه الكامل في منظومة التعليم الرقمية التي تسعى لتنفيذها الدولة على كافة المستويات لتعزيز استراتيجية التعليم القائم على البيانات، كما شهد رئيس الوزراء، توقيع عدد من عقود تدويل خدمات بنك المعرفة المصري، بين وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ومجموعة من الناشرين الدوليين، وذلك بما يتيح لبنك المعرفة تقديم خدمات الناشرين لجهات وهيئات وجامعات خارج مصر.
ويحوي البنك أكثر من 7 آلاف دورية مشتركة، وأكثر من 250 ألف كتاب إلكتروني، بالإضافة إلى أن عدد أطروحات الماجستير والدكتوراه يتجاوز مليون و400 ألف، فضلًا عن المصادر الرقمية بعدة لغات لطلاب التعليم الأساسي من رياض أطفال إلى المرحلة الثانوية وتبلغ 28 ألف مصدر.
الخبراء يؤكدون على محمودية توجهات الحكومة المتعلقة ببنك المعرفة المصري، وتعزيز هيكله المعرفي والتقني لربط نتائج البحث العلمي بمستلزمات الإنتاج والصناعة ،و لتحقيق تطبيق عملي للبحوث وتحويلها إلى منتجات وخدمات مبتكرة تفيد المجتمع، بما سهم بشكل مباشر في تطوير الصناعة والاقتصاد وتحسين جودة الحياة في مصر، مشيرين إلى ضرورة إجراء المزيد من الشراكات النوعية التي تخدم النهج القائم على البيانات المتميزة في مجال البحث العلمي من أجل دعم وتعزيز مكانة الدولة خاصة مع تخطي إجمالي عدد المستخدمين المُسجلين في بنك المعرفة المصري حتى أكتوبرالماضي 4.575 مليون شخص.
وأكدوا على أن بنك المعرفة المصري يمكن أن يلعب دورا أكبر في دعم جميع مستويات التعليم في الدولة المصرية، بشروط محفزة عبر الاعتماد بشكل أكبر على منظومة التعليم الرقمية من جانب وزارة التعليم وأيضا التعليم العالي، والاعتماد بشكل أكبر على النصوص الرقمية والكتب والمراجع الإلكترونية، بالإضافة إلى دمج التقنيات الحديثة في عملية التعليم كالخصائص الجديدة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، أدوات صناعة المحتوى، والتوسع في التعلم التفاعلي واستخدام الموارد عبر الإنترنت، وتطبيقات التعليم المختلفة .
من جانبه قال المهندس أحمد حسام الملاحي المتخصص في تكنولوجيا التعليم والمؤسس والرئيس التنفيذي لشركة إيجل آوول تكنولوجي: خطوة توقيع الحكومة المصرية لعقود تدويل بنك المعرفة المصري مع ناشرين دوليين هي خطوة تعزز مستقبل بنك المعرفة بشكل كبير، وهناك العديد من الفوائد لهذه الخطوة، ومنها أن يكون هناك مصدر واحد للبيانات والمعرفة، فسبب نجاح فكرة بنك المعرفة أن يكون هناك مصدر للداتا، ومشكلتنا في تكنولوجيا التعليم أن المدارس والجامعات لديها مشكلة في مصدر البيانات، فأغلبها لا تعلم كيفية الحصول على المعلومات، ولذلك هذه الخطوة تعني أن بنك المعرفة هو مصدر واحد يمكن أن تلجأ إليه المدارس والجامعات، وتتواصل وتتكامل معه، ويكون هناك بيانات موحدة.
وأضاف أن فكرة المكتبة الأونلاين تفيد طلاب الدراسات العليا والدكتوراه بدلا من اللجوء إلى شراء الكتب، فالبنك يصبح مصدر رائع للبيانات، ويمكن أن يكتفي به الطالب كمصدر للبيانات والمعلومات المطلوبة.

وأشار الملاحي إلى أنه يمكن أن يكون هناك أدوات أخرى تساعد بنك المعرفة على تحقيق كامل أهدافه، ومنها جذب المدارس والجامعات بخدمات أخرى، خصوصا أنه لا يمكن إجبار المدارس والجامعات على الدخول إلى المنصة، ولكن إذا كان هناك عنصر جذب آخر لتلك المؤسسات ترى من خلاله عائد استثماري واضح سيكون هناك تواصل دائم مع بنك المعرفة، فيجب توفير خدمات خارج فكرة المعلومات فقط، ومنها خدمات إدارية أو تقديم فكرة إدارة المدرسة، فهذا سيكون عنصر جذب كبير، بجانب الاهتمام بالبحوث العلمية بالتأكيد لأنها ستفيد بشكل كبير في تحقيق النمو الاقتصادي القائم على المعرفة.
ويرى الملاحي أن بنك المعرفة يحتاج إلى مزيد من الشراكات مع القطاع الخاص المصري، مشيرا إلى أن البنك بمفرده يستطيع تحقيق النجاح بنسبة 80%، ولكن باقي الـ 20% ستكون من خلال القطاع الخاص، ويرى أنه من ذكاء القائمين على البنك أن يتواصلوا مع القطاع الخاص حتى تستفيد كل الأطراف، ولتعزيز تحول مصر لمركزًا بحثيًا دوليًا يربط منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ببقية العالم.
وكانت الدكتورة جينا الفقي المشرف العام على بنك المعرفة المصري، قد أشارت في تصريحات سابقة أن مصر تقدمت 12 مركزًا في مؤشر Scimago لتصنيف الدول وفقًا للنشر البحثي العلمي خلال عام 2023 ، مقارنةً بعام 2016، لتحتل المركز 25 عالميًا وتصبح الدولة الرائدة في أفريقيا، ومؤكدة في ذات الصدد أن بنك المعرفة المصري ساهم في الارتقاء بالتصنيف العالمي للجامعات ومراكز الأبحاث المصرية، مستعرضة عددا من الأمثلة.
وأشارت إلى وجود قاعدة واسعة من المستفيدين من منصة بنك المعرفة المصري، تشمل الجامعات، والجهات البحثية، والمعاهد العليا، والوزارات، والمؤسسات الطبية، والمنظمات غير الحكومية والمجتمع المدني، وغيرها.

وحول الخطوات الأولية التي تمت لتمكين بنك المعرفة المصري كمنصة إقليمية، أوضحت الدكتورة جينا الفقي أنه في عام 2022، أطلقت اليونسكو واليونيسيف مبادرة بوابات منصات التعلم الرقمي العام، لرصد وتمكين منصات التعلم الرقمي العام على مستوى العالم، وتسليط الضوء على النماذج الأكثر نجاحًا وتعزيز تبادل الخبرات، وفي عام 2023، تم الإشادة بتجربة بنك المعرفة وانضم بنك المعرفة المصري إلى مبادرة بوابات التعلم الرقمي العام المُشار إليها.
ونوهت الدكتورة جينا الفقي، إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية تأتي في مقدمة الدول التي تسترشد بالأبحاث المصرية في أبحاثها، مؤكدة على أن منظومة المعرفة في مصر تقوم على رؤية مفادها الاستفادة من نجاحات مصر وضمان مساهمة أبحاثها وابتكاراتها بشكل كامل في رؤية 2030، والشراكة التي تدعم تنفيذ السياسات واتخاذ القرارات بشكل فعال.
بينما أشار محمد أسامة مؤسس منصة “أخضر” التعليمية والثقافية، إلى أنه من العوامل الداعمة لبنك المعرفة المصري هو التعاون مع المنصات المشابهة في الدول المتقدمة، إذ يرى أن هناك دول كان لديها نفس التحديات المعرفية مع الطلاب ولديها تجارب هامة يمكن الرجوع عليها من أجل الاستفادة منها ومن خبراتها، ويؤكد أن الشراكات والتعاون الخارجي يساعد في تشكيل مستقبل التجربة بدلا من اختراع العجلة، لذا يرى أن خطوة توقيع عقود تدويل بنك المعرفة المصري مع ناشرين دوليين خطوة هامة، ويجب الاستمرار في الشراكات والاعتماد عليها من أجل دعم بنك المعرفة بصورة أكبر ولتعزيز تأثيره.
وأضاف أن توجه الدولة مؤخرا يشير إلى الاستفادة من التجارب العالمية، مثل خطوة البكالوريا، فهي خطوة تشبه ما يحدث في العالم، ويتوقع أن تكون مثل تلك الخطوات مفيدة للتعليم والثقافة في مصر.

ويرى أسامة أن هناك أدوات يحتاجها البنك لتحقيق كامل أهدافه مثل توفير مصادر الدخول على بنك المعرفة بكل الأشكال سواء من خلال الهاتف أو الكمبيوتر، فهناك أهمية لأن يكون البنك يدعم استخدام الهاتف لأنه هو الأداة الرئيسية حاليا للدخول على الإنترنت والتعامل مع مختلف المنصات، بجانب أن يكون الأمر عصريا وليس أكاديميا فقط، فيجب استخدام طرق عصرية حديثة، فعلى سبيل المثال الناس أصبحت تتقبل المحتوى القصير غير الأكاديمي بصورة أكبر، وحتى إذا كان هناك جوانب أكاديمية فيمكن تقديمها بطرق وأشكال عصري
قال الدكتور أمير الصاوى، مدير التعلم الرقمى بشركة نهضة مصر، أن المسار الرئيسي لتطوير التعليم في مصر على المستوى التنفيذي وأقصد الممارسة التعليمية، وأيضا الإنتاجي بمخرجاتها من الطلاب والخريجين، يجب أن يبني على التكنولوجيا وتقنياتها التفاعلية وذلك لتحسين مخرجات العملية التعليمية عبر مد الطلاب بالمحتويات الرقمية المناسبة لطبيعة العصر وظروف التعليم، منوها إلى أن بنك المعرفة المصري يعد محورا رئيسيا في هذه المنظومة.
وأكد على ضرورة تطويع تقنيات الذكاء الاصطناعى التوليدى في تقديم تجربة تعليمية متطورة عن السابق، وزيادة الإنتاج ورفع كفاءة المنظومة التعليمية، مبينًا أن الرهان في المستقبل سيكون قائمًا على تكيف أطراف منظومة التعليم مع المتغيرات التي توجدها التكنولوجيا، مثل تغير أدوار وزارة التربية والتعليم والشركات ومنصات المحتوى التعليمى ودور النشر، لذلك يجب الاستعداد لذلك بسرعة.
وأشار الدكتور أمير الصاوي ، إلى أن التغيرات العالمية المُتسارعة، مثل الثورة الصناعية الرابعة والتحول الرقمي، تتطلب التركيز على الابتكار، حيث أصبح التنافس عالميًا، وليس محليًا، ولذلك يجب تطوير المحتوى التعليمي، ومهارات التدريس؛ لتمكين الطلاب من مُواكبة هذه التغيرات، فضلًا عن ضرورة إعادة هيكلة الكوادر التعليمية لتتناسب مع المتطلبات العالمية الجديدة، ومؤكدًا ضرورة التعاون لتحقيق هذه الرؤية وتطوير نظام تعليمي يواكب تطلعات المستقبل.

من جانبه قال مصطفى عبد اللطيف، الشريك المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة EYouth: للنجاح في تطبيق نظام تعليمي يلائم التطورات التكنولوجية، نحتاج إلى تبني عدة احتياجات أساسية. أولاً، يجب أن نطور بنية تحتية تقنية قوية تدعم التعليم الرقمي، مثل توفير الإنترنت عالي السرعة، والأجهزة الحديثة في جميع المدارس والجامعات. ثانيًا، يجب أن نستثمر في تدريب المدرسين ليكونوا على دراية بأحدث التقنيات وأساليب التدريس الرقمية. ثالثًا، يجب أن نعيد النظر في المناهج الدراسية لتتضمن مهارات القرن الواحد والعشرين مثل التفكير النقدي، والبرمجة، والذكاء الاصطناعي. وأخيرًا، من الضروري أن نخلق شراكات استراتيجية مع الجامعات العالمية والشركات التقنية لضمان تزويد الطلاب بأحدث المعارف والمهارات المطلوبة في سوق العمل.
ويضيف عبد اللطيف أنه في المراحل الأولى، يجب التركيز على بناء أساس قوي في المجالات الأساسية التي تدعم التكنولوجيا. من بين هذه المواد: التفكير الحاسوبي، والذي يركز على كيفية حل المشكلات بشكل منطقي ومنهجي. البرمجة الأساسية، التي تعلم الطلاب كيفية كتابة الأكواد وفهم المنطق البرمجي. بالإضافة إلى أساسيات الرياضيات والعلوم، حيث إنها تمثل حجر الأساس لفهم التكنولوجيا المتقدمة. ومن الضروري أيضًا تعليم الطلاب مبادئ الأمان السيبراني منذ البداية، لتوعيتهم بكيفية حماية بياناتهم الشخصية على الإنترنت.
ويشير عبد اللطيف إلى أن النظام التعليمي في مصر يواجه تحديات كبيرة فيما يتعلق بدمج التكنولوجيا بشكل فعال. من أبرز هذه الفجوات هي النقص في المناهج الدراسية التي تركز على التكنولوجيا المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي، البيانات الضخمة، والأمن السيبراني. هناك أيضًا فجوة كبيرة في تأهيل المدرسين، حيث إن الكثير منهم غير ملمين بأحدث التطورات في مجال التعليم التكنولوجي. بالإضافة إلى ذلك، يعاني القطاع من نقص في البنية التحتية التقنية، خاصة في المناطق الريفية. هذه الفجوات تتطلب تدخلًا جادًا وسريعًا لضمان أن يكون التعليم المصري مواكبًا للعصر الرقمي.
ويؤكد عبد اللطيف أننا نحتاج إلى حوار مجتمعي شامل لرسم مسارات تعليمية مستدامة تلبي احتياجات المستقبل. يجب أن يشارك في هذا الحوار جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك الطلاب، المدرسين، الأهالي، الجامعات، والشركات التكنولوجية. هذا الحوار سيساعد في تحديد الأولويات وتوجيه الموارد بشكل صحيح، ويضمن أن النظام التعليمي لا يلبي فقط احتياجات السوق الحالية ولكن أيضًا يضع أساسًا قويًا للابتكار المستقبلي. الاستثمار في التعليم التكنولوجي ليس فقط ضرورة اقتصادية، بل هو أيضًا مسؤولية اجتماعية نحو تأهيل جيل قادر على قيادة التطور الرقمي في مصر.